صُدفة بألف ميعاد⏳ نشرة أروى لا.fi البريدية - العدد #2 |
25 ديسمبر 2024 • بواسطة أروى لا.fi • #العدد 2 • عرض في المتصفح |
✉️ | مرحباً، تصلكم هذه النشرة في صفحتها الثانية بعنوان: "صُدفة بألف ميعاد" من المدينة المنورة بقلبٍ مصبوغ بحب يوم الأربعاء الذي أعتقدُ أن جملة "صباح الخير" قيلت أول مرة فيه لذلك عندما نقولها في هذا اليوم بالتحديد تأخُذُ نفَساً أطيب وأكثر بهجة وانتعاشاً، والعُهدة على المشاعر، فصباحكم خير أيها الربوعيُّون، ومن هُنا تحية ومن هُنا سلام لأهلنا في حمص الذين اجتمعنا معهم على التغني بحب هذا اليوم فطرةً ومحاكاة.
🗓️ يوم الأربعاء البهيج | ٢٤ جمادى الآخرة | ١٤٤٦ھ |
|
![]() |
مع الصباحِ الباكري يصلني إشعارٌ تذكيريٌّ من مجتمع نَبِرة في تمام السادسة، لا يقول لي °صباح الخير يا جاري صباح المسك والعنبر .. صباحٌ ضاحكٌ حلوٌ ويومٌ طيِّبٌ سكّر° كما تعودت في صغري أن أسمعها من إلهام أحمد، ولا يتقمص دور صديقتي وفا في محاولة إسعادي، وهي تصافح قلبي بصوتها الرائع الذي أحب: |
إذا مرّ يومٌ ولم أتذكّرْ |
به أن أقولَ: صباحُكِ سُكّرْ |
ورحتُ أخطّ كطفلٍ صغير |
كلاماً غريباً على وجه دفترْ |
فلا تَضْجري من ذهولي وصمتي |
ولا تحسبي أنّ شيئاً تغيّرْ |
فحين أنا لا أقولُ: أحبّ |
فمعناهُ أني أحبّكِ أكثرْ |
وإنما هي رسالة تذكيرية بأن عليّ ألا أنسى قراءة الورد المخصص من كتاب "يوم من حياة كاتب" وكعادة البدايات المثالية نجوت من أول يوم في رسم صورة مثالية بأن بادرت بقراءة الورد في الساعة الأولى من يومي، ولخصت الأفكار المهمة التي لفتتني، وخرجت بقائمة أفكار طويلة واستفتحت المجموعة التفاعلية بتسجيل خبرٍ فحواه: أني قرأت. |
في اليوم التالي تكاسلت عن متابعة القراءة مع مبتدى يومي، وأخذت أرصف المهام تباعاً كأنما في عقلي رجالٌ متشاكسون كي أنجو من الشتات الذهني الذي نما في صباحي مع رسالة من ابنة خالي تشارك معي سماع حلقة من بودكاست يحكي عن مشكلة اجتماعية مؤرقة، تتمسك ابنة خالي بأستارها، وتصب في الجذر اللغوي لكلمة: عين ونون (عنَّ) كما في مقاييس اللغة أن لمعناها أصلين، الأصل الثاني الحبس، فمن ذلك قولهم: عنّيت، وشاهدها: |
قطعتَ الدهر كالسَّدمِ المُعَنّى |
تهدِّرُ في دمشق ولا تَريمُ |
وهذا غير مهم، فموضوع حلقة البودكاست بعيد كلَّ البعد عن اللغة، وإنما يدندن حول حب النفس البشرية للمعاناة، وهكذا أصابني التفاقُم الصباحي للرسائل بصداعٍ رهيب؛ إذ أن كل تذكير يهيم بي في واد، ولم أسترح إلا عندما فرّغت كل ما في نفسي بالكتابة، تحدثت إليَّ عن الصباحات الجميلة التي أحبها، ومكاني من جدتي الذي أفقده وبشدَّة هذه الأيام، وعن حاجة الإنسان للتعرض الدائم للسعادات الكبرى في حياته كحاجته لأن يتعرض لأشعة الشمس كي يحصل على فيتامين دال أو حاجة النفس إلى أن تتعرض للحق كيلا تنفصل عنه، وكتبت ما نصُّه: أن الأحلام كالحقوق تنتزعُ غلاباً، ويعبُرني الآن بيت شعري جميل لسعد علوش، يقول فيه: |
ولا يا كلام الحق تشبه عويد الراك |
بك الناس لامن شانت أفواهها استاكت |
المفارقة ليست هنا، لقد حرصت على تتبع سير كل هذه الأحداث التافهة؛ لأن ما حدث بعد ذلك كله كان بارعاً للغاية، وأخـيراً بعد جهدٍ جهيد! عندما حان الوقت المناسب لقراءة كتاب "يوم من حياة كاتب" إستجابةً لصوت "نَبِرة" الذي يذكرني بأن علي اللحاق بركب القراء، وجدت الكاتبة تتحدث عن جدتها، وأحلامها، ولغاتها الكثيرة التي لم تعد تكفي للتعبير عما يدور في خلدها، أدركت أنها تقلدني، حتى أنها ذكرت الرقم ١٤ في كلامها! لقد قالت: "منذ أن غادرت وطني الصين قبل ١٤ عاماً وأيام الكتابة تبدو لي كمعركة بين اللغة التي أفكر بها واللغة التي أكتب بها" ولكني قرأت النص بحالتي الشعورية المكثفة والخاصة جداً، والبعيدة عن النص، ذهب عقلي بعيداً قبل ١٤ سنة إلى نفسي عندما بدأت الكتابة، وإلى الثورة السورية القائمة على شعار "الثورة حق والحق لا يموت" .. لحظة! أشعر بالغضب لأن "شياو جوه" تتعمد تفتيت تركيزي الذي للتو جمعته، ما الذي تريد أن تصل إليه!؟ لماذا تتحدث عن نفسها وكأنها أنا؟ ما شأني بجدتها، ومعاناتها، وحاجتها للترجمة، لقد ضاقت عنها كل لغات العالم لتبحث عن لغة خاصة "بالحلم" كما ضاقت بي نفسي وأنا أرى كل هذا التوائم والانسجام بيننا حتى لم أعد أستطع إكمال القراءة، فلكل لفظ اختارته هي بتفان معنى آخر عندي، مثلاً هي تحدثت عن "الحلم في المنام" وما فهمته أنها تعني "الحلم في اليقظة" أي الأمنية، وهكذا أصبت بالدوار مرتين لأنني ولشدة اقترابي من عقلها لم أعد أفهمها، لقد قرأت المقدمة أكثر من خمس مرات "وتحيولت عيوني" دون أن أتمكن من معرفة تفاصيل الحلم الذي دار في منامها، وكنت في كل مره أقرؤه لا أنجح في اكتشاف منِ الذي تحاوره جدتها .. إلى أن عثرت أخيراً بعد أن تقطّعت أنفاسي على كلمة "رفيقي الغربي" مندسة في يمين السطر، وهكذا وجدت صعوبة بالغة في إتمام القراءة، ولم أفهم شيئا، لا لصعوبته ولكن لغرابة الموقف، العجيب فيما يحدث، أني بالأمس نويت قراءة ٢٠ صفحة زيادة على النصاب المحدد، ولكني سوّفت ولم أفعل، هذا المقطع بالتحديد لو أنني قرأته قبل يوم واحد فقط؛ لما كان يعني لي شيئاً، ولكنها صدفة خطرة أن يُحاصرك أشباهك في هذه الحياة ثم لا تعرف طريقاً للخلاص ولا تجدُ بُدَّاً من الاستسلام. |
وفكرة الكتاب أنه يطرح تساؤلاً أوحد حول "الروتين الكتابي" لـ٥٩ كاتباً كلهم يجيب عنه، وفي اليوم الأول عندما انتهيت من القراءة، سألت نفسي كما يفعل الكُتّاب الكبار عن دوافعي للكتابة فأجبت بوضوح أن الكتابة مرتبطة عندي بثلاثة أمور مُحددة: |
- شعوري العارم بالفرح. |
- رغبتي في التواصل مع الآخرين. |
- الذهاب إلى مكان لا أعرفه (كسر روتين) |
وعندما رأيت "شياو جوه" تتحدث عن ما أسمته بـ"لغة الحلم" إلتفت عقلي مباشرة إلى ما أسميه "لغة الفرح" حيث تتقافز الكلمات في قلبك كحبة فشار أيُّها أسرع في الانشقاق إلى نصفين، وتقول "شياو جوه" معبرةً عن معاناتها اللغوية: "كنت أستيقظ بأحلام مشوشة، ثمّ أدوّن تلك الأحلام حتى تأتي اللحظة التي أدرك فيها انفصام لغتي في السرد؛ فيتجمد قلمي مرّةً أخرى، إن لغاتي تجعلني أحيا في عالم من الغربة، فأنا لا أشعر أبداً بأنّي في وطني، إنها تشعرني بأنني أعيش في المكان غير المناسب، إنّها تجعلني بلا جنسيّة؛ وهذه هي طبيعة حياتي ككاتبة" وأقول أنا بدوري أن تقرير الانسان أن هناك لغة خاصة بالفرح، ولغة خاصة بالأحلام قرار جريء، لأن الأفراح والأحلام لا تكون إلا مُعلنة، ولغة الكتابة لغة ضعيفة لا صوت لها، فكيف يصرخ بالفرح من كان غير متكلم؟ بل كيف يعبر بالكلمة عن الكلمة في لغة أخرى هل هذا خروج من الأسر؟ طبعاً لا، إنما هو مبالغة في مضاعفة ربْط العُقد التي نعوذُ بالله من نفثاتها، وهذا يعيدني إلى كتاب "لن تتكلم لغتي" لعبد الفتاح كيلطو، وهو يقول متهكما: "إننا مسكونون باللغة، بالمعنى السحري للكلمة، ويتأكد لدي هذا الإرتسام عندما أشاهد أشخاصا يتحدثون بلغة أجنبية لا أفهمها، أصاب حينئذ بالدهشة والذهول، وأكاد أعتقد أنهم ضائعون في لغتهم، وغير قادرين على الإفلات منها" في البداية حزنت على شياو لأني وجدت أن هذا الكلام ينطبق عليها، ثم تنبهت إلى أنه ينطبق علي أنا أيضا، وعلى عدم فهمي "لمشهد الحلم والحوار الذي دار بين جدة شياو الصينية ورفيقها الإنجليزي بلغتين أجنبيتين مختلفتين" وعلى الرغم من التصالح الكامل بيني وبين شياو ورغبتنا الصادقة في البحث عن مخرج طوارئ سليم النواتج، واعترافنا شديد السريّة بما نختاره ونفكر فيه دائماً، وما يعتريني من خجل جرّاء تصريح كاتبة بـ"أن لغة واحدة لا تكفيها" إلا أنني لن أكون كشياو وأقع في فخ جديد، لن أهرب من اللغة العربية إلى لغة أخرى كالفارسية مثلاً! كما هربت هي من الصينية إلى الإنجليزية، على الرغم من محاولاتي الكسيرة للهروب إلى لغة الشعر، ولكن هذا أيضاً فخ صريح، يوماً ما سأكون كجبران خليل جبران وأتعلم رسم الأزهار. |
ما يؤسفني أيضاً أني كثيراً ما عيّرتُ جبران خليل جبران -في نفسي- بالرسم، وكثيراً ما كنت أراه في نصه "أنصاف الأشياء" يتحدث عن نفسه، كنت أفسر كلامه بمرأى حياته وأنه لو لم يكن نصف كاتب ونصف رسام لما كتب هذا النص، وأخجل الآن أمام نفسي مرتين مرة أن أكون كشياو أهرب من النثر إلى النظم كما هربت هي بين اللغات، ويحزنني أن أكون كجبران لا رسامة فقط ولا كاتبة فقط؛ فكثيراً ما كنت أدندن حول فكرة "توحيد الطاقة في اتجاه واحد" لقد ربّيت أفكاري على أن الصورة عدو الكلمة، وأن اللون قيد الخيال، وأن الشكل في المعنى والحياة بسعتهما اللا محدودة لا على ضيق أفق الورقة والهندسة، لقد خسرت كل هذا الآن، ومن المضحك أن تتمة بيت سعد علوش آنف الذكر هو: |
ولا يا كلام الحق تشبه عويد الراك |
بك الناس لامن شانت أفواهها استاكت |
اشوف الغبي واثق وأشوف الذكي شكاك |
وأشوف اللي أذكى من الذكي شايف وساكت |
وهذا البيت يذهب بي بعيداً إلى الأدب الفارسي، حيث تقول آذر نفيسي في كتابها "أشياء كنت ساكتة عنها": احتجت إلى وقت معيّن كي أتقبل الحقيقة القائلة إن لأسرة أبي أسرارها وأكاذيبها، كانوا في الوقت ذاته مغامرين فكرياً ومتزمتين إلى درجة قصوى، حينما قلتُ لأخي إنه يبدو من الخطأ أن يكبت المرء مشاعره إلى درجة كهذه قال لي: ربما هكذا نشأنا، «ماذاتعني؟» إننا نعرف أنفسنا ليس من خلال ما نظهره بل من خلال ما نخفيه، كان لديه قصد، إنما يومذاك بدا لي دوماً أن ما هو غير ملفوظ بوضوح لا وجود له على أرض الواقع، ومع ذلك من بعض النواحي غير الملفوظ بوضوح، ذلك الذي تم السكوت عنه وتم كبته، يصبح مهماً وجوهرياً إلى درجة مساوية لما قيل، إن لم يتفوق عليه .. وهكذا بكل يُسر وسهولة وبكل ما أوتيت آذر نفيسي من نعومة وحذر تقرر -نيابةً عنا- وبهدوءٍ قاسٍ يخدِشُ اتحاد رؤانا أن الخفاء والخرس أبلغ من كل ما قيل ولا اعتبارَ للاتفاقات المتأخرة بيني وبين شياو ولا لضجيج أصواتنا الذي يشبه شجار "بنكي وبرين" وهما يخططان للسيطرة على العالم، وكأنها تضع غطاء قدر الضغط على دجاجتين وتكتمه، ولا يُسمع إلا صوت صفير البلبُلِ! أقصد صوت السفتي، وينتهي حُلمُ شياو، وأغلق أنا الكتاب، وتغربُ الشمس، وتطيرُ الطيور، ويبقى سؤال آذر نفيسي لأخيها يصدحُ عالياً كالجرس: ماذا تعني؟ |
* * * |
نقطة آخر السطر، ها قد انتهينا من سرد أحد أعظم مشاكل الانسان الحديث تعقيداً، وهي مواجهة صورتك البعيدة التي يحتفظ بها آخرون قريبون منك شبهاً وحِسَّاً، متباينون عنك شكلاً ولوناً، ومثل هذي المواقف يتكرر معي بطريقة متعبة وشاقة على التفسير، لذلك إن كنت قد وُفِّقت في شرح مثل هذه الحالة ووصفها وصفاً لا لبس فيه فهنؤوني، وبالضد من كل شيء تتميزُ الأشياء، ولولا الاختلاف لما استطاع الانسان صحيح البصيرة قويّ النظر رؤية ما حوله كما هو، واسألوا مُخبراً، ودمتم سالمين. |
* * * |
![]() |
|
التعليقات