مسافات 🕰️❔ نشرة أروى لا.fi البريدية - العدد #10

8 مايو 2025 بواسطة أروى لا.fi #العدد 10 عرض في المتصفح
مرحباً, يصلكم العدد العاشر والأخير من هذه النشرة في سنة ١٤٤٦ھ، شهر ذي القعدة، يوم 10 الخميس.

عزيزي القارئ كم تحب نفسك! إذهب وافتح صفحة ١٦٩ من كتاب البخلاء ط.دار المعارف، واقرأها كاملة ثم عُد إلي، هل تجدُ فيها ما يُضحِك؟ أشكُّ في ذلك، يبدو أنك فقدت قسطاً من الفكاهة أو أنَّ قدراتك على تمييز النِكَات قد خفتت، انتبه لصحتك النفسية عليك أن تغذِّيها، امم حسناً أنا أفهمُك جيدا، ماذا لو عرضتُ عليك أن تجرِّب "أن تتضاحك" بعد كل سطر تقرؤه من تلك الرسالة؟ هل الفكرة مُجدية؟ هل من الممكن أن تغير رأيك في المكتوب؟.. حسناً أنا آسفة، يبدو لك أني أستخفُّ بك، ولكنني في الحقيقة أختبرُ نباهتك لا أكثر، وإن كنتُ قد أغضبتك فهذا إصبعي الخنصر أمدُّهُ إليك لنتصالح "صليح صليح" ما أجمل ابتسامتك! هل رضيت الآن؟

حسنٌ وبعد أن تصافينا سأعرضُ عليك قراءة كتابٍ بعنوان: "التهكم وفن الإضحاك عند الجاحظ" لا أريد إغضابك مرةً أخرى ولا أن أشق عليك، ولكن عليك أن تفهمني وتضع نفسك مكاني، فقد وردتني رسالةُ ابن التوأم مراتٍ عِدَّة في حياتي، أُولاها عندما كنتُ في الصفِّ الثانوي، كنتُ صفراً حينها، ليس عن النقود أتحدث، بل عن اللغة، لم أكن أمتلك معجماً ذهنياً وأسلوبياً وتاريخياً أواجه به هذا النوع من الحِجَاج، لكنني ويا للبراعة لم أستسلم لهذا الفشل وقرأتُ الكتاب كله وحدي ثم جمعتُ له الجموع وقرأتُه على بناتِ خالاتي وأنا أتضاحك بين سطرٍ والآخر وأسكتُ سكتةً خفيفة تحقيقاً لأدب المشاركة، ولا أنا فهمت لماذا أضحك، ولا هُنَّ فهمنَ لماذا يضحكن، وهل تنشأُ العادةُ بين الناسِ إلا بالمجاراة والمسايرة؟

في المرةِ الثانية عندما كنتُ في السنة الثانية الجامعيّة شاركتُ في مشهدٍ مسرحي بين شاعرين جاهليَّين يحتكمان عندَ زوجةِ أحدهما أيهما أشعر من الآخر، وينتهي المشهد بكلمة: أنتِ طالق طالق طالق، ومن قرأ عرف إلى أين تبيت مقاصدي، ونشأت بيني وبين صديقَتَي اللغة صحبةٌ مؤقتة، عرّفاني أسماء الأساتذة وأساليبهن في التدريس وماذا ينتظرني في كل ترم، وسألتهما وهما على وجه تخرج: ماذا ستفعلان؟ قالت إحداهن سأدرس الماجستير وأتفرغ لقراءة كتب كبار أدباء اللغة الجاحظ ومن هم على شاكلته، قلتُ في نفسي: ما شاء الله وأكبرتُ همَّتها، وعند تخرجي من الجامعة تذكرتها ونفسي تهزءُ بي: "آخر ما علي، أقرأ للجاحظ!؟" وسرت بي الأيام، وأنا تائهةٌ في المكتبة العربية المعاصرة، أتعرف على أدبائها جيئة وذهابا مرة إلى مصر ومعارك شعرائها الطاحنة، ومرة إلى فلسطين أذوبُ في سيرة أعلامها، ومرةً في لُبنان أشهد اهتمام علماء اللغة المسيحيين باللغة العربية وأتعجب لهم، ومرةً أهيم في وادي الشعر العراقي، ومرةً أتورط في معرفة اسم الماغوط ولا أكادُ أسترشدُ منهُ على طريقةٍ تخرجُني من سوريا وتعتقني من معاناته ولا أعرفُ أحداً غيرهُ في دمشق يكون لي دليلا، وذهب بي إلى خليل صويلح فقرأتُ له رواية الندم فإذا به يصوّرُ فتاةً قرويَّة على أنها مزعجة وثرثارة وفارغة لانعدام ما تفعله في حياتها، فاستفزني وشعرتُ أنه يقصدني وتركته، ودخلتُ مكتبة في منتصف الليل فإذا ببطلة الرواية يفصلها عن الموت 27 يوماً وتسير إليه حتى تصطدم به ويقع في يدها كتابُ حياتها، ومع تتابع الأحداث تكتشف أن الندم هو أبرز مشكلة عانت منها، ولن أخبركم ماذا حدث بعد ذلك، اذهبوا واقرأوا بأنفسكم، وإذا فعلتم فعودوا إلي ولا تكونوا كصاحب يوسف عندما نجا وادّكر بعد مدّة، وإن تعودوا نعد، أنا أخبركم من هو ابن التوأم وأشرح لكم رسالته كما تشرحُ الأستاذة، وأنتم توافونني بنهاية رواية فتاةُ المكتبة لأني لم أتمها بعد.

وقبل انتصار الثورة السورية وتحرر أهلها بـ5 سنوات، تعرفتُ على صديقةٍ لي تُحبُّ الشعر واللغة والحُريَّة وامتطينا ظهرَ الطريق نسير للأمام، وعرضت عليَّ أن أواكِب فعلها، وأنظر في أمرها أزاول العلم بحثاً، وعزمتني على همِّها فانشرحتُ له، وكانت منخرطةً في كتابِ المُعَمَّرون والوصايا ومقابر الجاهليين تفتِّش في أعمارهم وتوثق سير أخبارهم، وتعد رسالة الدكتوراة في هذا الشأن، فما كان مني وأنا الصديقةُ المطواعة إلا أن كنتُ لها "كاليد اليمين للشمال" والقولُ في الصداقة والصديق للخليل، وما إن قالت لي هيَّا حتى قلتُ لها هيَّا، واستقبلتني كما استقبل الشيرازيُّ حِبَّه مُحسناً تعريف الهوى، ومضينا قدماً كلٌّ تنادي الأخرى يا أنا.

وعدتُ مرةً ثالثة للجاحظ، لا لشيء عدا أنَّ كتابهُ "البخلاء" هو الكتابُ الأدبيُّ الأوحد في مكتبة أبي التُّراثية، وانحدَّيتُ عليه لا كارهةً له ولستُ بطلة، وقطَّعتُه بالنظرِ والقراءة والشرح والإفهام وفكِّ المُلغز، وردِّ بعضِ الكتابِ إلى بعض فحصحص النور، وجاء الفتح، ورأيتُ عجبا، ثم إني اجتهدتُ في جمع الأبحاث الشاردة والواردة وألقيتُها في سلَّةِ "المقروء بعناية" وهكذا سرتُ في دربي سنتين كاملتين لم أدَّخر فيهما وسْعاً ولا طاقة، ونجحتُ في اختبار القراءة وجمع المصادر واختيار العنوان وفشلتُ في الكتابة البحثية، ولم تبلغ رحلتي مأملي، وتركتُ البحث في طيِّ الجحود والنكران، واعتزلته تماماً ورثيتُ الباحث الذي في داخلي نثراً وابتهالاً في مطلع ذي الحجة سنة ١٤٤٣ھ: «اللهمَّ إني إلى طريق نفسي أنتمي، وعندما اخترتُ الكتابةَ لم أشتهي ثرثرة الباحثين، ليس لي بِكَيِّ عيوني أيُّ حاجة، ومع ذاك أشعر بسخونة جارفة، بكلِّ ما فيَّ من بياضٍ وسواد وخضرة، تحت جلدي خطوطٌ توازيها المساعي، عروقٌ لستُ أدري أين تقصد، ودمٌ ثائرٌ لستُ أعلم كيف مجراهُ؟ ولا ماذا يطلب؟ يعلمُ الله أني بريءٌ ممّ ألقيته في بئرِ هذي العيون» وتشبّهتُ بالقنفذ الصغير الذي تكثِّره أشواكه، والنص طويل قد أشارككم إياه في نهاية النشرة، ولكن تتمة الحكاية يا أصدقاء هي أن صديقتي أنهت بحثها، وتحررت سوريا وعاد إليها أهلها، واستفتحتُ معكم نشرتي قبل خمسة أشهر من الآن، وسرتم إلى جانبي في مسرَّة، فاقتربت الوُجهة وزالت المشقَّة، وشرَّعتُ بابي كل شهر للنادي ألجُ إليه بقراءة كتابٍ جديد، والحمد لله.

 لقد قاربت على الفراق من كلامي ولمَّا تخبرني أيها القارئ العزيز عن سؤلي إياك هل تحب نفسك؟ إنني الآن في مواجهة مع أمر لا أحبُّه ولم أختره ولكن دعاني إليه حُبُّ التجريب الكِتابي، إنه الجاحظ .. سأعود له المرة الرابعة إن شاء الله، وستكونون معي، لا لنضحك ولكن لنتباحث في الجانب الأثبت ونتقوقع بين رسالةِ الثقفي وابن التوأم، لذلك فإني أستأذنكم في قبول فكرة الانقطاع المؤقت عن النشر وبيننا بينكم لو رعيتم ذاكَ معرفةً، إن المعارفَ في أهل النهى ذِمَمُ، موعدنا وإياكم مطلع السنة الهجرية ١/محرم/١٤٤٧ھ إن شاء الله، وهاته عشرةٌ كاملة، ويا مطوِّل الغيبات رد علينا الغنايم.

ستكون لي فسحة ونفثة في قناتي على التلجرام هذه المدة فاذكروني بدعاء، ودمتم بخير.

* رابط قناتي على التلجرام:
t.me

*

*

* ابتهالات | من إرشيف سنة 1443ھ.

اللهمَّ إني إلى طريق نفسي أنتمي، وعندما اخترتُ الكتابةَ لم أشتهي ثرثرة الباحثين، ليس لي بِكَيِّ عيوني أيُّ حاجة، ومع ذاك أشعر بسخونة جارفة، بكلِّ ما فيَّ من بياضٍ وسواد وخضرة، تحت جلدي خطوطٌ توازيها المساعي، عروقٌ لستُ أدري أين تقصد، ودمٌ ثائرٌ لستُ أعلم كيف مجراهُ؟ ولا ماذا يطلب؟ يعلمُ الله أني بريءٌ ممّ ألقيته في بئرِ هذي العيون.

عندما اخترتُ طريقي كان لي بطولِ آدم شبَهْ، وسُرعةِ يأجوجَ ومأجوجَ في التجوُّلِ على أرضِ خيالاتي مُشتبَهْ، ولكنِ الآنَ فيَّ علَّة، ما زلتُ أصغر وأتقزَّم حتى صرتُ في وزنَي قنفذٍ تكثِّرهُ أشواكه، يعلمُ الله أني بريء من الشوك الذي أنبتته مسامِّي، ما جئتُ ها هنا طوعاً وما أشاء، ولقد نتفت شعرات جسمي كي أستنير، فنمى في مساماتها جحرٌ وأذى كثير، جلدي انكمش، وما اعترضت طريقه، تقلَّص أيضاً وما خلقتَ له -يا ألله- صوتاً فأسألهُ: هل بكيت؟

من أين أتيت؟ كنتُ في سعةٍ من ظلي، ونقاطُ الحروفِ أقطفُها من ظلِّ السماءِ ليلاً وأشعلُ بها في أُفُقِ الجوِّ حريق، يمتدُّ حتى الشفق، وينتهي الحريق عندما تقذف الشمسُ عينها العوراء المُحْرِقَة إلى البحر وتغرق، هل رأيت؟ كدتُ أكونُ أنا الغريق، ولكني انعطفتُ إلى جيلٍ جديد، جيلٌ أمقته، وإن أحببته فلا والله ما أعترف، يُكَلِّفُني ما لا أستطيع، قيل لي: بحثٌ؟ قلتُ: والله ما فعلتُ إلا أن تُريد، فاخترتُ لي عنواناً ورفيق، وسعيتُ بأرضي أستغيث: "أنِ امشوا واصبروا على آلهتكم إنَّ هذا لشيءٌ يُراد"  فأُخْرِجَ لي من "غطَّاسةِ الحصنيِّ" حدَقَيٌ ما قطُّ رأيته، وَوُصفت لي عيناهُ بالجحوظ، ليتَ عَمري! ما يستحون، أتوصَف أعينُ الموتى بسعتها وتأهُّبِها، وهي في قبرها مغمَضةُ الجفون؟!

ما اشتهيتُ رؤيته ولكن تبعتُه، فلا هو أبي ولا أنا ابنتُه، ولقد رأيتُ قُدَّامي طريقاً فمشيْتُه، قيلَ لي هل في قفا رأسهِ عيون؟ قلتُ ما رأيتْ، ولقد أرعبني أن ليسَ له ظلُّ تحتَه، وما كان ينبغي لميَّتٍ أن يُشعَّ سواداً، ولا أن يكونَ لنفسه مَهديَّاً، فكيف وقد صارَ لي هادياً؟

ما رحِمتُ تحناني للوراء، وما رجعتُ للحياةَ التي غطستْ في ظلي، كان لي سوادٌ ولكن بحجمي، كان فيَّ سوادٌ ولكن لمّا ينتشر في عظمي، ساءلتُهم أباحثهم: هل ينخرُ السوس العظام؟ قيل: لا، وسعيتُ بأرضي أستغيث: "أنِ امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يُراد" كل هؤلاء الناس -بما فيهم أنا- يكذبون.

ولقد عُدتُ أخيراً بعد سنة، قيلَ ما تشتهين؟ قلتُ: نجمة، قيل لي: أوتستطيعين التقاطها؟ قلتُ: مَحَنَّة! قيلَ: فقط؟ قلتُ: فَقَدْ!

وقد كانت لي يدانِ طويلتان لو عادت فأستطيع! قيلَ: ألكِ في الجريِ طولُ نفس؟ قلت: نعم، ولكن في الليل، قنفذي لا يسيرُ نهاراً، وإن رأى إنساناً أو رآه جانٌّ خاف وتغطّى .. وما كذبتُ حتى الآن ولكني -بغيرما إرادةٍ مني- انتميت.

هل رأيت؟ كِدتُ أغرق، ولكني انعطفت، كنتُ لاقطاً فالتُقِطت، وما كانَ لي رفيقٌ غير ظلِّي ولكن بي ترفَّقْتِ الطُّرق فشلَّت أواخرها، هل أعود؟

التهكم وفن الإضحاك عند الجاحظ.pdf - Google Drive

drive.google.com
صبا الزيود1 أعجبهم العدد
مشاركة
نشرة أروى لا.fi البريدية

نشرة أروى لا.fi البريدية

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة أروى لا.fi البريدية