حرية أن لا تكون كاتباً 🪽 نشرة أروى لا.fi البريدية - العدد #1

19 ديسمبر 2024 بواسطة أروى لا.fi #العدد 1 عرض في المتصفح

✉️ | مرحباً، تصلكم هذه النشرة في صفحتها الأولى بعنوان: "حرية أن لا تكون كاتباً" من المدينة المنورة بقلبٍ مصبوغ بحب الشام وأهلها، وأسعد بتزامن افتتاح نشرتي البريدية مع عودة أهل سوريا إليها، فكما تحتضن الديار أحبابها في اشتياق بعد غيابٍ طويل أودّ لو تصافح أعينكم حرفي بألفة ومحبة كما لو كنت صديقة قديمة طال العهد بها وعادت بعد مغبّة لتزداد المحبة.🗓️ يوم الأربعاء الحمصي | ١٧ جمادى الآخرة | ١٤٤٦ھ 

<br>


تخيّل أن تكون قضيتك الخالدة هي "اختيار من متعدد" الكتابة أو الرسم، النثر أم الشعر، علمي ولا أدبي، هادئ أم ثرثار، اجتماعي أو جاهل ببدهيات التعامل مع الناس وإدارة الوقت والعلاقات في حياتك عامة، هذه الحيرة وهذا التوطين على التفكير المتردد واستباق الندم بدلاً من مسايرة الأهواء ومجاراة الزمن بحيث تكون لكل رغبة لبّاسها جعلت من الاختيار تجربة مشوبه بكثير من المشاعر المختلطة وانتفاع عملي واضح ومحدد أقل؛ لأنك تزج بنفسك زجّاً في بوّابة لا مرئية، قد تُرى وأنت تبذل السبب وتفعل الأفاعيل في سبيل الحصول على "الاعتراف المجتمعي" بهويتك الذوقية كفنان، ولكنك في الحقيقة تتكور حول نفسك كحلزون وحيد، لا محوراً للكون ولا جرمٌ صغير، وسُرَّ من لا يدري.

من هنا بدأ انفكاكي عن المجتمع والإنزواء داخل مكتبة بحثاً عن مسار مجهول غير قابل للتقييم، فمثلاً: قراري وأنا في سنِّ الرابعة عشر من عمري أني سأصيرُ "كاتبة مشهورة يوماً ما" قرارٌ غير مسؤول لأنه لم يكتمل بعد، يشبه حدثَ اندلاع ثورةٍ في مكان ما يقول صاحبها: أنه حُر، إلا أن الفارق بينهما هو أن

🪽 الكلمة: حق مشاع بين الأوطان بينما اختياري قرار فردي لا يترتب عليه كبيرُ شيء.

🪽 الكلمة: صرخة إنسان في توقيتٍ مناسب من قلبٍ حي بينما اختياري عملٌ خفي لم يرى الضوء بعد.

🪽 الكلمة: معنى خالد يصطف لسماعه كل أحرار العالم، بينما اختياري رغبة خجلى أن تنجح في رسم الكلمة بأكبر قدر من الحرية.

فهل يمكن للكتابة أن تكون عمل ثوري؟ هذا ما لم أفكر فيه من قبل، ما أدركه على وجه اليقين أن الإنسان بطبيعته الناطقه خيرٌ وأحب إلى الله في جهوريّته المطلقة على قول الحق من الإنسان الصموت، وهذه مسألة فقهيه أذكر أنها عبرتني فيما سبق لستُ أذكر أين، وهي السؤال حول أفضلية "سكوت المرء أو غلبة الكلام عليه" حتى في مثلِ هذه الحال لم يسلم الإنسان من النزوع إلى الاختيار، ما أذكره جيداً أني سألتُ صديقتي أثير قبل أيام عن أحب شيءٍ لقلبها: أروى الناطقة أم أروى الكاتبة؟ فأخبرتني أنها تحب لمحة الإبداع فيما أكتبه أكثر، بينما أخبرتها أني أحبُّ صوتي أكثر، لأنني ببساطة أمتلكُ في عُرف نفسي ما لا يملكه القارئ عني، فمثلاً عندما كتبت:

_________________________________________________

غِربانٌ سودٌ على الشجرة، وجدارٌ طويلٌ يحجزني عن رؤيةِ الجذع، وأنا خلفَ الهواءِ فوق السطح، تفصلني مسافةُ رمي حصاةٍ واحدة عنِ الشرود، لستُ أطير، ولكنَّ الغربانَ عمَّا قليلٍ ستتركني للجلاء، رُميَ عليها الحصى أم بللها المطر، لستُ على الشجرة ولكني أميلُ عندَ النزول، وفيما تُرْعِدُ السماءُ، وتنتشي الأغصَانُ، يغشاني داعِ الغيوم لأتقارب مع ما أرى، وماذا أرى؟ سوادٌ وخُضرة، بياضٌ وزُرقة، وجدارٌ قريب، هو أقربُ لي من قطراتِ الماءِ المعلَّقة في أطرافِ الغيم، ومن حشحشةِ سكانِ المرتفعاتِ المجاورة، غِربانٌ فوق الذي فوقَه ورق، وقلمٌ في يدي، وعينانِ شاردة، ليست تطيرُ وإن حفَّتها رموشٌ وعلاها حاجبان، ماذا تحوي في داخِلها؟ طيرٌ أم أرفف؟ جِدارٌ أم علو؟ على صفحتها ارتسَمَ كلامٌ وهمَّ مطرٌ بأن يهطل، وعلى يدي أن تكتبَ الآن وفوراً: كيف أميلُ عند النزول؟ بل كيفَ أستعدُّ إذا ما جناحٌ رفَّ من فوقي وطار، ولماذا أدور تحته؟ خلفَ الهواء، تفصِلُني عن يدي نظرةٌ وكتاب، وفي داخلِ كلِّ مُتنَفَّسٍ أوراق، فيما يضرِبُ البرقُ عصاه، ويشدُّ الغرابُ قدميه، أمسِكُ أصابعي عن الكتابة، وأحتبِسُ المطر.

_________________________________________________

هذا النص خالٍ من المناسبة، مكتوبٌ بطريقة مختزلة، موغلة في الرمز، لا يكاد من يقرؤه أن يفرق بين ما إذا كان "السطح والجدار والشجرة والغراب" أمامي الآن أم أني أتخيل وجودهما، وما حدث أني صعدت سطح بيتنا قُبيل أذان المغرب في جوٌّ بارد أحمل كتاب "البخلاء للجاحظ" معي، وأتأمل سواد السماء، وبجانب بيتنا شجرة مُعمّرة اكتسحتها العصافير بأصواتها فلا يكاد من يمر بجانبها أن يراها لشدة ما يذهب تركيزه بعيداً إلى البحث عن سكان الشجرة، وكأن حاسة البصر تتعطل عند السماع، وهذا المشهد حركي وحيٌّ أكثر من مشهد الشجرة الساكنة الخالية من العصافير، فكيف إذا كان بجانب الشجرة جدارٌ مرتفع وعازل يفصلُ فتاة كاتبة عنها؟ ما الذي سيحدث؟ الذي حدث هو أني كتبت هذا النص في اللحظة التي أنتظر فيها هطول المطر، وعندما انتهيتُ "أمسكتُ عن الكتابة فاحتبس المطر" وكأن مطر الكتابة أغناني عن نزول المطر من السماء فنزلت من علا السطح ولم أنتظره.

هذه التفاصيل وهذه الرؤية أعز علي من النص الذي كتبت، وقد مكثتُ زمنا من عمري لا أرى لنفسي صورةً أجمل من أن لا أكون كاتبة، وهذا حلم حياتي الذي كنستُ كل طاقات أصابعي في مجرفته، حتى أني كنت أحب "إيميلي دوقلس ستار" لأنها تشبهني، وقد شاهدتُ الإنمي أول مرة على قناة سبيس تون، ثم قرأت روايتها فيما بعد، ولا زلت أحبها، ولكن لم أعد أشبهها، ليس لأنها فتاةُ القمر الجديد وأنا التي تغازلها الشمس، وإنما لأني كبرت على الكتابة، هل تعرف ماذا يعني أن يكبر أحدهم على الكتابة؟ أن يفني ١٤ سنة من عمره في تجريب كل أنواع الكتابة، ويجتاز واثقا ويصل مرحلة الإحتراف ثم يعتزل؟ هذا لغز محيّر فعلاً ولكنه حدث.

عندما انتهيت من إحدى لقاءات "معسكر أنا كاتب" مع الأستاذ عبد الله عمر، اتصلت بصديقتي يارا وأخذنا نتناقش ما يزيد عن ساعة حول أفكار اللقاء، وبعد أن انتهت المكالمة، كانت أختي ريمان شاهدة على الموقف، وهي في أشد درجات اندهاشها مني، لأنها لم ترى اللقاء في صورته التدريبيه العابرة، ولم ترى نقاشي مع صديقتي "حول الكتابة" ثرثرة عابرة، وإنما لأنها شعرت أن شيئاً ما في داخلي يكبر، في داخل "أروى الكاتبة بالتحديد" عند ذلك أخبرتها أني أحب الكتابة ليس لأنها الوسيلة الأفضل للتعبير، ولكن لأنها إحدى طرق الإنسان في التفكير، نحن نكتب لنرى سير الأفكار في عقولنا، لنرى اختيار الكلمات والفواصل، لنبرز في حالة نادرة من الخفاء كي نظهر بشكل صارخ على هيئة نص، أخبرتها أني كتبت مرة تساؤلاً عادياً أجبت عليه إجابةً لا أنساها أبداً، وهي:

_________________________________________________

- لماذا تكتبين؟- استبقاءً لذرية أفكاري.


_________________________________________________

في تلك اللحظة بالتحديد عبَرت بنفسي فوق النص لأطفو فوق النبرة، ربما لو لم أصل لهذه المرحلة من الانكشاف والأريحية لأعترف؛ لما كتبت كل هذا الآن ولما افتتحت نشرتي البريدية، كنت بحاجة ماسّة لأن أتحرر من الصورة التي حلمت بأن أصبح هي يوماً ما، ولكن المفارقة أني صرتُ هي عندما كسرتها لا عند احتفاظي بها، الآن أبلغ من عمري ٢٨ سنة، وبدأت في كتابة روايتي الأولى، وأحلمُ أن أهبَ يدي اليمنى للسماء تكتب على صفحاتها الزرقاء ما تشاء، وأهب يدي اليسرى للأرض تتلمس تضاريسها وتنغرس فيها كشجرة معمّرة لا يُعلم كم عُمرها ولا من هو صاحبها.

                                  * * *

أستمع الآن إلى: 

أقرأ الآن:

* ملاحظة: كُتبت هذه النشرة يوم الأربعاء وتأخرت في النشر إلى يوم الخميس وهذا السبب وراء تباين التواريخ مع الأيام.

مشاركة
نشرة أروى لا.fi البريدية

نشرة أروى لا.fi البريدية

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة أروى لا.fi البريدية