مكالمة جماعية ☎️ نشرة أروى لا.fi البريدية - العدد #6 |
19 فبراير 2025 • بواسطة أروى لا.fi • #العدد 6 • عرض في المتصفح |
✉️| مرحباً، تصلكم هذه النشرة في صفحتها السادسة بعنوان: "مكالمة جماعية" من المدينة المنورة، ونشرةُ اليوم تخبركم أنه في قريتنا يوجد قلبُ أمٍّ سعيدٌ سعيدٌ سعيد بعد أن خرج ابنها من السجن وفقدت بغيابه كل أسباب الحياة المبهجة، فالحمد لله ربُّ السعةِ والضيق، ربُّ النهار والليل وربُّ الفلق والناس الذي لا ينسى أحداً.
🗓️| يوم الأربعاء الصديق | ٢٠شعبان | ١٤٤٦ھ |
|
![]() |
في القلب |
تندلع القصيدة |
بغتة |
ويهب نعناع |
وتلثغ نحلة |
- |
ماذا عن الليل يا أحمد يا بخيت؟ ماذا تقول فيه؟ حسنٌ؛ سأفزع لك بمقولة عبده خال المستوحاة من الطبيعة، فقد اختزل دهشته في جملة واحدة فقط، عندما عبَّر عن فقدانه لأهم معالم قريته الكونية بعد انتقاله إلى المدينة فقال: (الليل أول ضحايا المدينة) هذه الأربع كلمات تقول أكثر بكثير مما هو في ظاهرها إنها تُعلِن اختفاء السهر والسكون والنوم اختفاءً لا يصاحبه البحث عن مفقود! بما يدلنا على خبر مهم تتلاشي فيه حاجة الإنسان للمَكَنة اليومية التي تُعلن جاهزيته لبدء كل يوم منذُ أن اخترع توماس أديسون الكهرباء، ولو تقمصت دور محمد الماغوط في التعبير لقلت: في الليلِ ليلٌ آخر، وبينَ أصابعي أصابع أخرى، ولن أستطيل في وصف كثافة هذان القولان، وإنما أُحيلكم إلى شخص الماغوط نفسه حين قال: في فمي فمٌ آخر وبين أسناني أسنان أخرى، وسياق حياة من هو مثل الماغوط يكفي لتنخر هذه الكلمات في جماجمنا حتى تتصدع، ومقدمة عبده خال لكتابه (قالت حامدة) فيها تفصيل المقال والمقارنة بين ليل المدينة الفضِّي وليالي القرى الدامسة، ذو المظهر المميت، والحياة الباطنية البيتوتية المُعلَّبة والمملوءة بالسهارى الذين يتكورون دوائر دوائر في أنصاف الليالي الصيفية وسط الظلام خارج المنزل، لا تكاد تتبين ملامحهم وأنت تمر بجانبهم ولكن يصلك صفو أصواتهم نقيّاً جهوريَّاً. |
وفي ليلةٍ ذات أهمية اتصلت بي صديقتي من الطائف وجمعتني بصديقة لنا أخرى من القصيم وأخذنَ ثلاثتنا نفتُّ ونعجن في السوالف التي لا تسمن ولا تغني من جوع، إلى أن استشعرت صديقة الطائف أنها بحضرة صديقتها المدنية -المحنكة اجتماعياً- حسبما تلقِّبني، ثم قالت وهي لا تلتفت يمنة ويسرة؛ لأننا لسنا في مجلس وإنما نجري هذه المكالمة بالجوال: هناك جفوة قسرية بين أهالي المدن؛ فهم يلتقون في الشهرين والثلاث مرة أو مرتين فقط، ويضم المجلس أعداداً كبيرة من بنات الخالات والعمات اللاتي قد لا تعرف منهن إلا أسمائهن فقط، ومن ثم يجري النقاش في مواضيع شتى لا تملك فيها أن تعبر عن رأيك الخاص بكل تجلِّي دون أن يختلف معك أحد، والمشكلة ليست هنا، المشكلة أن الجمع بين "التمسك بالرأي" و "لطافة الأسلوب" أمر متعسر في مجلس موحِش كهذا، وافقتها صديقتنا الأخرى وأخذا ينفِّسان عن روحهما شيئاً مما يجدانه حول ثِقَل هذه "الاجتماعات العائلية" التي لا طعم لها أو لون، وأنا مشدوهة أتأمل كلامهما بعينان لا ترف! عم تتحدثان؟ قاطعت حديثهما المنسجم بسؤال: هل شاهدتما مصانع الخبز في "وثائقيات الجزيرة" التي تُنتج عشرات الأرغفة في فديو واحد؟ قالا: نعم: قلت لهما: أنا آلة الخبز تلك، إن عدد من ألتقي بهم من أفراد عائلتي وجيراني، وأصدقاء جيراني في الأسبوع الواحد قد يتجاوز الـ٣٠ شخصا كمعدل طبيعي وثابت، ويزيد بحسب نشاطي الإجتماعي أو ازدهار المناسبات الاجتماعية من وقتٍ لآخر، هذه المكَنة والتدريب منذ الصغر عند عائلات أهالي القرى على مواجهة الناس تجعلك تدرك بشكل بدهي وجوب الفصل بين "الحالة المزاجية" و "طلاقة الوجه" عند الخروج من المنزل، فنحن لا نعترف بأي قاموس مشاعري وخواطري وطبي قد يفقدك الرغبة في الذهاب عن البيت والمكوث فيه، وذهابك يعني اعتدادك بكامل "اللياقة الحضورية" في أعين من تلتقي بهم، فأنت جاهز دوماً لمواقف "المواجهة" هذه، ومستعد لضغط "زر التوقف" لحياتك الخاصة في أي وقت حسبما تقتضيه اللحظه والوُجْهه، وبعد استطرادي في الحديث أخذت كلاً من صديقَتِي تستعرض بينها وبين نفسها -بصوتٍ مسموع- عدد المرات التي امتنعت فيها عن الخروج من المنزل بسبب أنها لم تكن بحال مزاجي مواتي، أخبرتهما أن هذه رفاهية لا أمتلكها. |
بغض النظر عما إذا كان هذا الأسلوب في العيش يعد سعيداً أم لا؛ إلا أنه يُنتج منك شخص "مفلتر ذهنيًّا" من الله، يعني ما يحتاج تعرف ايش راح تقول إذا قابلك شخص ما تعرفه، ولا يحتاج تُعِد لردة فعلك إذا جالست أبغض الناس إليك، بمجرد خروجك من المنزل أنت تُسلّم نفسك لمجريات ذلك اليوم، أذكر مرة أني خرجت من بيتنا عصراً كعادتي كل يوم أقصدُ جدتي؛ فإذا بعمتي تقطع الشارع وتسألني: إلى أين أنتِ ذاهبة؟ قلت: إلى بيت جدتي، وأنت؟ قالت: أنا "رايحة أضيف" وأمسكتني بيدي ولم تفلتها، وقالت سآخذك معي؛ فامتنعت عن مرافقتها بشدة وأخبرتها أن جدتي تنتظرني ومؤكد أنها الآن تنظر للباب الذي أدخل منه كما تفعل كل يوم ولا يحسُن بي أن أتأخر عنها فقلبي الرهيف ما يطاوعني! وأردفت كلامي بحجةٍ أخرى لعلها تتركني في حال سبيلي: ثم إني لا أعرف أين وجهتك فكيف أصحبك؟ فلم تلقِ بالاً لكلامي وأخذت تمر بي بين البيوت بيتاً بيتاً حتى وصلت إلى وجهتها، ويدها ممسكة بمعصمي، وعندما دخلنا رحبت بنا صاحبة الدار وضحكتْ للصدفة التي أتت بي إلى منزلها دون ميعاد، ونحن في عاداتنا نعد ذلك من البركة، أن تنوي استضافة شخص فيتهافت الناس عليك معه، ونحن نتشائم من البيت المهجور الذي لا يتبارك بزيارة الناس، وعند ذهاب المُضيْفة إلى المطبخ، نطقت عمتي وأخبرتني أن جدتي ليست في منزلها، لأن خالي قد اصطحبها معه في نُزهة وأخذ أولادها معه "وإذا عُرفَ السبب بطُل العجب" وهذا الذي دفعها لتتمسك بي، وكانت جلسة عصرية في غاية الروعة، لم أحسب لها حساباً، وإذا بي أجلس مع صديقتين أنا بينهما طرفٌ ثالث لم يستثقلا حضوري وإنما استقبلاني كأنهما سعيا إلى أن أكون معهما منذ البداية، وكانتا حريصتين على جلوسي معهما أكثر من حرصي أنا، وهذا كرم النفوس الخفّاق الذي نرفعه عالياً على سطوح بيوتنا. |
والشيءُ بالشيءُ يذكر في الأسبوع الماضي أرسلت لي خالتي تعزمني على العشاء، وأخبرتني أن هناك ضيفة -عداي- سيُقام لها العشاء، وإنما دعتني معها لأني "صاحبةُ محل" وتعدُّني في مقام بناتها، فاستجبت لها دون أن أسألها من هي؟ واحتفظت لنفسي بحق المفاجأة، ومن عاداتنا أن من تدعوك لبيتها استئناساً بك، وهناك ضيف آخر معك أن تخبرك؛ ليكون لك حق الاختيار في قبول الدعوة أم لا، أو على الأقل لتسوية المزاج العام بين المدعوات بحيث يتهيأن للُّقيا، ولو سألتها عن الضيفة فلا حرج، ولكني لم أفعل، ولتسرُّب النوايا بين الأخوات فإني لم أنعم بردة فعل مفاجئة كما كنت أتوقع، فعند جلوسي إلى أمي أخبرتها أن خالتي دعتني للعشاء الليلة؛ فقالت قبل أن تنتظر مني مزيد خبر: |
- لابد أنها عزمت أم عيد. |
- يعني ضيفتها أم عيد! |
- إيوه. |
- وأنت وش دراك عنها؟ |
- لها شهر وهي تطريها. |
- آه، ليتك ما علمتيني يا يمه، أبغى أتفاجئ. |
- وهي ما قالت لك؟ |
- ألا، بس ما علمتني بالضيفة، وأنا ما سألتها. |
وهكذا انتهت المفاجأة قبل أن تبدأ، وأم عيد هذه جارة لحيّنا مصرية، تجمعنا معها صحبة طيبة، وقد درَّست ابنة خالتي في الروضة عند قدومها للسعودية أول مرة، وابنة خالتي هذه الآن مشاركة معي في النادي وهي خريجة ثانوية تقرأ وتناقش وتتهيأ لدخول الجامعة عمَّا قريب -إن شاء الله- بعد أن تتجاوز جدار يأجوج ومأجوج! أقصد اختبار التحصيلي لذوي القدرات الخارقة، فلكم أن تتخيلوا عِداد الأيام التي عاشتها بيننا أم عيد! ولقد أخذتنا معها في رحلة سياحية إلى مصر وتحدثنا عن المطبخ المصري والسعودي، وعادات الحجاب ومكانة المرأة بين أهلها في البلدين، وعندما سألتها عن حال ابنتها الصغرى مع المدينة لأنها الوحيدة من بين أشقائها الثلاث التي عاشت في المدينة أخبرتني أنها تحب القرية أكثر من إخوتها؛ حتى أنها تمكثُ أسبوعاّ كاملاً مع أبيها عندنا، وتقول لأمها: اذهبي إلى المدينة وعودي لي في نهاية الأسبوع! |
هذا نموذج سريع لروتين الأيام الذي تسير فيها دون أن تختار من ستلاقي ولا مع من ستجلس أو إلى أين ستذهب، وفي قريتنا نغبط من يملك رفاهية الرفض والاحتفاظ بحقه الطبيعي في تسيير يومه كما يشاء، ولن أستطرد في ذكر مواقف تحت هذا البند؛ لأن فيها شيئاً من الحرج لي ولأصحابي، أنا عموماً أحب أن تكون لي حظوظاً سعيدة ولكن هذا لا يعني أني مطواعة سهلة الانقياد مع كل هبة "يالله تعالي" و "يالله نروح" ممكن أقول: تم! وفلسفة الـ"تم" هذه إذا لم تدرك متى تقولها، ومتى تترفع عن الوقوع في ورطتها، الله يخلف عليك! أنت محكوم عليك بالوقوع في وحل "الخلطا بيطا" في اليوم ألف مرة، لا أنت مستانس ولا اللي تجالسهم يروقون لك، فاختيار التوقيت فن، كما إن إدارة العلاقات فنّين وليسَ فنَّاً واحدا فقط، والأمر لا يحتاج إلى وضع معادلة صارمة بقدر ما يحتاج إلى "مرونة اجتماعية" في القبول والرفض، ونصها: أن لا تغيب فتُنسى، ولا تُكثر الحضور فتُمَل، وأهل القرى عادة لا يحبون كلمة "لا" خِلقةً، خاصة بين الأصدقاء، وهذا مناطُ الحديث أصلاً، فهم يتعاملون مع صناعة اليوم وكأنه كتلة فرص ملقاه في الطريق، من يسبق أولا في الجمع أو يجمع أكثر هو الفائز، وهناك فرص ذهبية وأوقات من يتخلف عن الإهتمام بها فهو مغيّب عن الواقع ومدعاه للتهميش من الآخرين، فقدرُك مرسوم بحسب الأهمية التي يمهِّدها لك غيرك، أما حظك فهو مسألة شخصية لا دخل لأحد بها، فأنت تسعى لها، حسب نواياك الطيبة وذكائك الخارق للعادة! |
لا أدري إلى أين يمكن أن ينساق بنا الحديث إذا لم نُدر عجلة الموضوع إلى موضوعٍ آخر! ولكن إحترازاً من تهمة "التفشِّي" فإني مضطرّة إلى رفع مستوى الكلام قليلاً، فهل تعرفون معنى هذه الكلمة؟ وإلي أي علم تنتمي؟ حسنٌ، [تعريف التفشي في اللغة هو: اتِّساع الشيء، وقيل الانبثاث والانتشار، وتعريف التفشي في الاصطلاح هو انتشار الهواء في الفم عند النطق بحروف التفشي، وهو كثرة خروج الهواء بين اللسان والحنك، وانبساطه في الخروج عند النطق به؛ حتى يتَّصل الحرف بمخرج غيره، ومع التنويه أنَّ صفة التفشي من صفات الحروف القويّة التي لا ضدَّ لها، وتتَّضح في الحرف الساكن أكثر منها في المتحرِّك] لا أريد أن أكون ثقيلة ظل، ولكن لابدّ مما ليس منه بُد حتى لا تأخذوا فكرةً عني تنزاحُ بي نحو "التبعثر، والخثردة" أو أي كلمة رديفة لمعنى الثرثرة وعدم الانتظام في الكلام! على العموم فإن التفشَّي مصطلح علمي، وربطاً لأطراف الحديث المُعجِبَة فهناك ما أُسميه "التفشِّي الأدبي" و "التفشِّي الاجتماعي" ونحن إذا نالنا شيء من السرور بمجلس مّا نقول في وصف جماليته "ساع ما انحكرت الهرجة" أو "الجلسة محكورة" دلالة على قمة الانبساط والتلذذ بالكلام النابع من الأعماق وهذا تمهيدٌ لما بعد ولا علاقة له بفكرة تفشِّي الحروف الخاص بعلم التجويد! |
وقد وجدت الفرصة سانحة -أثناء كتابتي لهذا النص- لأُعرِب عن سروري الجامح بما توصلت إليه من التعمق في هذه الناحية، على كلٍّ: هل علي أن أزور مقدمة ابن خلدون الغميرة أو أتعلّق بأستار مصطلحات علم الاجتماع المتشعثرة في الكتب كي أحصل على تعريف علمي معبرٌ عما أريد الوصول إليه؟ أعترف أنني حاولت؛ ولكنني تهت وكدت أضيع عن استكمال النشرة والتشاغل عنها بالقراءة، ولو لم أتنازل عن فكرة إيراد اقتباسات معيّنة لتركت النص معلقاً، ولفاتني النشر في يوم الأربعاء، ولاعتذرت منكم في القناة؛ وألحّيت عليكم في قبول العذر، و، و،و،.. ما لكم بالطويلة، ما أعنيه "بالتفشي الاجتماعي" هو ضياع الوجهه، فالإنسان عندما يتوه فإنه يفقد قدرته على الإمساك بشيء ما، فلا بوصله تحثه على التقادم، ولا خط رجعة يعود منه لسيرته الأولى ومكانه الأوَّلي، أما "تفشّي الأدب" فلا أعني به الولوج في المسار الأخلاقي وإنما أردت به فن القول، هل سبق وعرَّف أحدهم الأدب بأنه تفشّي الأفكار في ذهن الأديب؟ لم أسمع بذلك من قبل؛ ولكن ما أعجبني هو تعريف أبي هلال العسكري للبلاغة والذي لا أنساه مذ وقعت عيني عليه أول مرة، حيث قال: (البلاغة إنهاء المعنى في القلب) فكأن مهارة التلفظ به تمثل عمليّة انسكاب من لسان من يقول إلى أذن من يسمع، أو بتعبير آخر لنقل أن شرط فن القول هو في كونه (من القلب إلى القلب) لا يمكن لكلام يعبر فوق فهم السامع فقط دون أن ينفذ لدواخله أن يكون بليغاً، كما لا يمكن لليلٍ يُخيَّم فوق سماءِ الناس دون أن يتسرَّب إلى قلوبهم شيءٌ من لونه أن يكون مخيفا! |
ولعل هذا هو سبب بلاغة حديث أهل القرى، وسبب انسجامهم مع بعضهم، هناك توائم نفسي وتآخي بين ألسنتهم وآذانهم وأعينهم وطاقاتهم؛ لا يوجد كلام مؤجل، ولا فرصة لقاء بعيدة، هناك يلتقي الجميع بالجميع كما تلتقي النجوم بالنجوم في السماء ثم تسقط وتختفي ليناموا؛ لتشرق الشمس وتصحو العصافير، وينهض الكونُ المستنار، هناك حيث الليلُ ليل، والنهارُ نهارُ، وصوت أحمد بخيت آتٍ من بعيد يترنحُ من مصر أم الدنيا صوبَ قرى المدينة: |
للهِيلِ |
بوصلةُ الحنان |
وتائهٌ |
تَكفيهِ قَهوةُ أمِّهِ |
لتدُلَّهْ |
انتهت النشرة |
انتهت المكالمة |
التعليقات