الأدب الشعبي 🐪⛺نشرة أروى لا.fi البريدية - العدد #5

29 يناير 2025 بواسطة أروى لا.fi #العدد 5 عرض في المتصفح
✉️| مرحباً، تصلكم هذه النشرة في صفحتها الخامسة بعنوان: "الأدب الشعبي" من المدينة المنورة، وقد تميّز هذا اليوم بعبور صديقة الصباح فيه، مما زاد نوره أنوار، ولتحيا الصباحات طلقة المحيَّا.
🗓️| يوم الأربعاء الضاحك | ٢٩ رجب | ١٤٤٦ھ

<br>


صباح الخير أيها العالم!

<br>


هذه الأبيات أندى من "طن ططن حليب ولبن" التي يضيفها طلاب الثانوية لخاتمة النشيد الوطني، ولا يوجد رابط ثخين بين هاتين المقطوعتين عدا أني سأحكي قصتي مع الأدب الشعبي، كيف ابتدت وإلى أين انتهت .. هناك سر من أسرار التعلم وهي مرافقة معلم نجيب، وأنا في طريقي إلى هذه الحياة منذ خلقني الله لم أسر فيها وحيدة فقد رُزِقت بر جدتي وتحلّقت حولها كما يتحلّق القمر في الليل حول أمِّه السماء من المغيب إلى المشرق، فكثيراً ما كنت أسأل أمي: لا أذكر أنني صحوت يوماً من نومي ورأيتك أمامي، أين كنت؟ فترد سؤالي بسؤال: أترين إخوتك الآن؟ عندما يستيقظون أين يذهبون؟ فأجيبها: إلى بيت جدتي، قالت: هكذا كنت، لم أكن أجدك في مكانك، بمجرد أن تصحي تذهبي إلى بيت أمي.

وعندما كبرت قليلاً كانت أمي تكل بعض مهامها إلي؛ ولكني أفشل طيلة النهار في إنجازها، والسبب -يا طويلين العمر- الذي يدفعني للتغيب عن بيتنا هو أني مشغولة ومشغوفة بصحبة معلمتي، وأمي في كل مرة يبلغ منها الغضب مبلغة وتهمّّ بمعاقبتيإلا أن ما يشفع لي: (لولا أنك تذهبين لأمي وإلا لم أكن لأسامحك على هذا التقصير) هذا ما أسمعه من أمي في كل مرة.

وهكذا سارت بي الحياة، منذ وعَيْتُ على نفسي وأنا متعلقة بها، تعلُّقَ أصمٍّ بالصوت الوحيد الذي يصل لمسامعه، فكانت لي كالماء البارد على الظمأ للصائم، أتشرَّبُ كل كلمةٍ تبلغني منها وأتغذى على حكاياتها حتى اصطدمتُ بحصة "الأدب الجاهلي" في المرحلة الثانوية، وعندما سمعت المعلمة تشرح لنا قصص العرب وأمثالهم لم يخطئ حدسي أن ما هو موجود في هذا الكتاب المدرسي يشبه ما تقصُّه عليَّ جدتي، فهرعت إلى كتب إخوتي في الأدب العربي التي درسوها في المراحل التي لم أصل لها بعد فالتهمتها في أسبوعٍ واحد، وزادت شراهتي قليلاً فاستعرتُ من مكتبة المدرسة ديوان حسّان بن ثابت وتلطَّفتُ به، وحاولت حشوه في نفسي حشواً ولكني استصعبته فأعدته بعد شهرٍ إلى المدرسة ولم أفهم منهُ شيئاً؛ منذ ذلك الحين عقدت العزم على أن تخصصي الجامعي سيكون "اللغة العربية" واستمريت على هذا المنوال، أتناوبُ الدروس بين جدتي والكتب، جدتي تصف لي الحياة وأنا أبحث عنها في بطون الكتب، وبخاصة "الأدب الجاهلي" فكنتُ أستنشقه استنشاقاً وأشمّه شماً، وأذكر أن شيخ البلاغةِ محمد أبو موسى قد تساءل مرة عن سبب تسمية العرب للأعشى بصنَّاجة العرب؟ ويحكي عن نفسه أنه قرأ شعر الأعشى وبحث بحثاً حيثياً عن السبب ولكنه غاب عنه، وما تبادر إلى ذهني حيال كلامه أنه لو استمعَ إلى شعرِ الأعشى بأذنيه ولم يقرأه صمتاً لربما اهتدى لجواب، لأن الصنج: معناه التغني بالشعر، والعرب في ظني أنها كانت تسمع الشعر ولا تقرؤه وبذلك انسجمت ذوائق من يسمع بمن يقول، وعلا حسّهم الطربي فكأن من قال الشعر وسمعه ونقله في الشعور سواء، وهكذا نشأ "ذوقٌ جمعي" عام بينهم في تلقي الشعر والإرتواء به، وهذا اجتهادٌ حدسي مني؛ يؤخذ عني ويُردُّ إلي.

عوداً على ذي بدء فإني تلمست خيوطاً خفية بين عصر جدتي الحديث والعصر الجاهلي القديم، والجامع بينهما هو "حياة البداوة نفسها" علاقة الإنسان بالطبيعة والمكان والحيوان، وعلاقته بنفسه التي تشكلت عن طريق تعلقه بأخيه الإنسان تفتنني، بحثه عن المياة في جوف الأرض جعل ارتباطه بما هو مخفي عنه مسلٍّ جدا، وهذا يشبه علاقتي بحياة جدتي؛ إنها حياة لم أعشها ولكني أحفظها عن ظهر قلب، وأملك كل الأجوبة التي تخصها، حتى أني كنت أشعر بأني أعيش بعقل منصوف نصفه لي والآخر لجدتي، فهي خفيّة عني ولكنها جلية في خافقي وكياني.

وأذكر مرة أن جدتي قصّت لي قصة تدور أحداثها حول البئر ورد فيها كلمة "السواني" فلم يتبادر لذهني معنى لها؛ فسألتها عنها، فأخذت هي وخالتي تشرحان لي شرحاً مفصلاً ما تعنيه هذه الكلمة ويوردان لي القصص المتعلقة بها حتى وعيتها، وبعد تلك المدارسة اللغوية بأيام فتحت كتاب "أيام العرب في الجاهلية" فوجدته قد أورد ذات الكلمة ولكنه لم يورد لها شرحاً، فلا يوجد في الكتاب ما يعينني على فهم معناها، ونص القصة كما هو موجود في "«يوم الوقبى»: وغبروا على ذلك زمانا ثم إن بني رياح اغترّوا بني مازن فأتوا ركيّة من ركايا الوقبى، فعقروا السواني وألقوا جيفها فيها" والمقصود بالسواني: هو تعاقب مجموعة من الجِمَال على البئر بحيث تحتمل رمي دلوين أو أربعة دلاء فيها بحيث تمسك كل أربعة جِمال من الحبل المربوط فيه الدلو بطرف، فإذا تقدمت مجموعة وادلت دلوها تأخرت الأخرى ورفعت دلوها؛ فهذه العملية مترتبة على الإنزال والجمع والرفع؛ وقد تبين لي معناها من شرح جدتي، ولو أني لم أمسك بطرف الكلمة وأتعرف عليها لمررت عليها عبوراً، ولفقدت جزءا من معنى القصة، وقد فزت بهذه المعرفة المسبقة وكنت كمن يتدرّع للنزال قبل أن يخوض فيه؛ وهكذا كانت تسلحني جدتي في كل مره قبل أن أذهب إلى المكتبة دون أن تدري، وقبل حتى أن تطلق سراحي من بيتها إلى الحرم الجامعي.

جدتي هي معلمتي الأولى، سمعت منها قصة أبو زيد الهلالي قبل أن أعرف أن له مسلسلاً تاريخياً، وحتى قبل أن أجمع روايات كتبه واقرأها، إنها تشبه رواة العرب القدماء الذين يتحلق حولهم جمع كثير فتروي لهم كل ما عاشته أو سمعته أو نقل إليها، هذه السعة في الإدراك، وهذا النمو في الفهم، والتقاط المرويات أنشأ لي ذاكرة حفظ وسط بين ما وعيته منها وبين ما قرأته في الأدب العربي، وقبل سنوات قليلة تعرفت على أديبٍ حجازي تولى جمع أدب الحجاز الشعبي وله عدة مؤلفات تخدم تَوْقي لاختبار مرئي يطابق بين مرويات جدتي والقصص المرصوفة في الكتب، وهو المؤرخ الأدبي عاتق البلادي من وادي الفرع وقد وجدت توائماً بعض الشيء بين ما وثّقه في كتبه من الأدب والحكايا وبين مرويات جدتي؛ وما عند جدتي أزخر لاقتصار الكتاب على التقسيمات، وعدم إفراده لكل قسم أدبي بكتاب، وفي الكتاب قصة دغة وجلغاف، ومن قصص جدتي التي أهيم بها وأحبها حبّاً جمّاً قصة هدهود، والبنت المخبية، وذيب عامر، وريع الحيَّة، وقمر عشر، والقصص مشاعة بين الناس ويسمّونها "سالفة" يتسلُّون بها في أوقات فراغهم، وبإذن الله سأفرد يوماً عدداً من النشرة لقصة أبو زيد الهلالي برواية جدتي لتستمتعوا بالبيان الشعبي والمنطوق البدوي للحكاية العربية.

ومن الكتب الثمينة في هذا الصنف: مؤلفات محمد العبودي، وله جهود تُذكر فتُشكر في الإحتفاء بالإرث البدوي منها: "معجم الأصول الفصيحة للألفاظ الدارجة" وهو ١٣ مجلد، ومنها "الأمثال العامّية في نجد" وهو ٥ مجلدات، ومثل هذه المؤلفات لا تكاد تمر منها على كلمة أو مثل إلا وأنت تستعمله أو أنك سمعته فهي قريبه منا ومن ألسنتنا، ومن الأسماء البارزة في خدمة الإرث المحلي والثقافي البدوي عالم الاجتماع سعد الصويان، وجميع ما ألفه حصراً مهم ونادر؛ حتى أنه وثق المرويات الشفهية وأودعها في كتاب، وهو وإن كان يعتني بالموروث الشمالي لأنه نطاق تحركه إلا أنه نموذج يُشار إليه بالبنان، وقد أشرف على موسوعة ثقافية مكونة من إثنى عشر مجلداً، تضمنت تسليط الضوء على الآثار والألعاب الشعبية والعمارة والفلاحة والحرف اليدوية والصيد والطب وكل ما يهمُّ الأحفاد معرفته عن إرث الأجداد وطبيعة حياتهم، ولا أنسى عبد الرحمن الشقير وأبرز كتبه "الذاكرة الشعبية" أصدر منه جزئين حتى الآن، وهو يؤرخ للإنسان العادي في الحياة اليومية في المجتمع السعودي ويرصد تحولات المجتمع المدني، ومن خلال اطلاعي على بعض كتبه أستطيع أن ألتمس الفرق الواضح بينه وبين العبودي والصويان والبلادي، فالشقير ينطلق لتأريخ المجتمع السعودي من منظور مدني، وينضم إليه في هذا الاتجاه الباحث منصور العساف، بينما الآخرون منطلقهم بدوي، ومصدرهم الأول الروايات الشفهية فهم يعتدون بها ويبنون عليها مادة كتبهم، وكُتب عبد الرحمن الشقير متاحة للقراءة في موقعه الإلكتروني لمن أراد الإطلاع عليها.

وفي الشعر هناك كتاب "الأزهار النادية في أشعار البادية" ويكفي من ندرته عدم شهرته فهو مكنز ذهب مختبئ وسط المكتبات، مكون من ١٨ جزءاً ويحوي دواوين كبار شعراء النبطية، ولشاعر وادي ريم الملقّب بشاعر ورقان ديوان اسمه "ورقانيات" لعلي يوماً أنتهي من قراءته فأفرد له عدداً خاصا، وله قصيدة عن جبل ورقان يلخّص فيها كل ما هو معروف عن النبات فيها ولم يكتف بذلك وحسب وإنما أورد إستعمالاتها أيضاً، وهي ذات قدر كبير عند جدتي وقد شرحتها لي، وهي قصيدة مطوّلة، تقع في ٥٨ بيتا، يقول الشاعر فراج محمود في مطلعها:

وعلى طاري جبل ورقان في أحد المرات الغابرة اختلفت وإحدى صديقاتي حول أيُّنا تقرب من جبل ورقان أكثر، فهي تسكن قريباً من المدينة في قرية على طريق ينبع، وأنا أسكن في الجهه الجنوبية الغربية من المدينة في الطريق الموصل إلى مكة فكيف يكون جبل ورقان قريباً منها، وهو يحف ديارنا من كل جهة!؟ فحجتي لها: أنا أشوفه قدامنا، وحجتها معي: أنها تراه أمامها كل يوم، ونحن وإياها لا نسكن ذات المكان، بل هي تبعد عني ٥٠ كيلو، فاحتكمنا إلى جدتي، وأخبرتها الخبر، فقالت لي: كلامها صحيح جبل ورقان في الجهة الثانية منه يُطِل على الدوداء، وهكذا استرحت أنا وصديقتي أن أحدى منا لم تكن تكذب وعيوننا مُصَدَّقة.

ثم ماذا؟ هناك مكتبة إلكترونية لسرمد العراقي سأضع لكم رابطها في ختام النشرة وكل ما تبحثون عنه من الإرث السعودي المعاصر من أدب وتاريخ ستجدونه فيها بلا ريب، وهذا ختام المقال، أترككم في وداعة الله.

                                                           * * *

                                                                                                                                 دعوة للقراءة: 

٨٤ صفحة عن "اللهجات في إقليم الحجاز"

٨٤ صفحة عن "اللهجات في إقليم الحجاز"


drive.google.com
مكتبة سرمد العراقي

مكتبة سرمد العراقي

Telegram: Contact @Tihama_books

t.me
مكتبة محمد ناصر العبودي

مكتبة محمد ناصر العبودي

Telegram: Contact @ktbobody

t.me
مشاركة
نشرة أروى لا.fi البريدية

نشرة أروى لا.fi البريدية

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة أروى لا.fi البريدية