البعث في الـDNA.!!

4 يناير 2025 بواسطة عبد الرحمن ياسين علوش #العدد 4 عرض في المتصفح
بقلم: عبد الرحمن ياسين علوش 

منذ اللحظة التي كان يفتح فيها الطفل السوري عينيه، يبدأ نظام البعث في نسج خيوطه حول روحه الغضة، لتشكيله وفق صورته الأيديولوجية. فيبدأ ذلك في المدارس الابتدائية، حيث تُزرع بذور الولاء من خلال مناهج تعليمية مشبعة بالدعاية الحزبية، وتصاغ العقول الصغيرة لتقبل أن البعث هو البوصلة الوحيدة في هذا العالم.

معسكرات "طلائع البعث" هي المحطة الأولى في سلسلة الإعداد، حيث يُلقَّن الأطفال شعارات جوفاء عن الانتماء والقومية، فيتشربون طقوس التمجيد، ويرددون الأهازيج التي تغلّف القائد بقداسة مريبة. ثم ينتقل بعدها إلى مرحلة الفتوة والشباب، وتتزايد هذه الممارسات، حيث يخضع الفتيان لمعسكرات شبه عسكرية تغذي فيهم فكرة الطاعة المطلقة، وتُستخدم الأنشطة الجماعية كوسيلة لإذكاء الشعور بالانتماء إلى القطيع، حتى تصبح الفردية جرماً والخروج عن النص خطيئة لا تغتفر.

وكل ذلك ليزرعوا في عقولهم أن البعث ليس مجرد حزب سياسي، بل هو هوية وجودية، ومن دونه يُفقد الإنسان معناه.

النظام لم يكتفِ بالمدارس والمعسكرات، بل امتدت يده إلى الإعلام والمؤسسات الأخرى التي تحولت إلى أدوات تسخير لسياساته. حتى الأسرة، التي تُفترض أن تكون الملاذ الآمن، كانت ضحية لهذه الهيمنة الثقافية، فترى رب الأسرى يخشى الكلمة التي قد تخرج من طفله في المدرسة، لأنها حتمًا ستصل إلى رجال الأمن.

وهل من سوريٍّ لم يسمع عبارة "الحيطان لها آذان"؟ بهذه الأدوات، زرع البعث ثقافة الولاء والطاعة، وقوّض قدرة الأفراد على التفكير النقدي أو التمرد على الواقع. غرس في النفوس الخوف، وجعل العقول أسرى لشبكة معقدة من الأكاذيب والترهيب. قسوة النظام كانت تتسلل إلى نفس المواطن السوري في كل لحظة، وتختلط مع أنفاسه، ليصير الخوف جزءًا من دمه وملامح شخصيته. لم يكن هناك مجالٌ للمقاومة في عقلٍ غارق في العتمة، عتمة لا تكشف عن أفق سوى الطاعة العمياء. إلى جانب الخوف، كانت هناك منظومة من القمع النفسي والفكري تكاد تلتهم كل مساحة من فضاء الفرد الداخلي. لم يعد المواطن السوري يملك ذاكرة حرة، بل كانت ذاكرته مثقلة بأشرطة مسجلة من الشعارات التي تُنصب فوق عقله كأثقالٍ من الحديد. لم يكن يستطيع أن يتنفس أو يعبر عن رأي دون أن يراه النظام تصرفًا مشبوهًا.

كان نظام البعث في عهد حافظ الأسد، ومن بعده الابن، شبحًا يطارد كل من يجرؤ على الخروج عن مشيئته، أو يسعى للوقوف في وجه طموحاته التوسعية. طغت جراحات هذا النظام على قلوب السوريين، وكأنها شِباك حديدية تحيط بكل روح تحاول الهروب.

منذ تلك المجزرة الرهيبة في حماة، حيث كانت الأرض تهتز تحت وطأة الخوف والجثث المتناثرة على الأرض، تدور العيون في سراب، وتظل الذكريات تلاحق كل فرد في تلك المدينة المنكوبة، بل في سوريا كلّها. وعلى امتداد السنوات، ظل "البعث" يحكم قبضته على الشعب السوري بكامل قسوتها، دون أدنى احترام للإنسانية. تجرأ البعض على الهمس بالكلمات التي قد تكشف سر الواقع، فما كان منهم إلا أن اختفت أرواحهم في زنازين النظام، تذوقوا من أنواع العذاب التي لم تراعِ إلا رغبات القمع.

في خضم هذا الاستبداد الذي أطبقت فيه قبضة البعث على قلب سوريا لسنوات طويلة، جاء لحظة الانفجار الذي طالما انتظره الشعب السوري. في عام 2011، وبتلك اللحظة التاريخية الحاسمة، قرر الشعب السوري أن ينهض ضد ظلمات البعث، وأن يكسر قيود سنوات من القهر والذل. سرعان ما بدأت المدن والقرى تتحرر من الخوف، وارتفعت أصوات الحرية في شوارع حماة وحمص وحلب، وتحدت القمع بعنفوان لم يعهده النظام من قبل. لم يعد البعث قادرًا على إخماد هذه الثورة التي انطلقت من أعماق المعاناة، بل أصبح يحاول بكل قوة أن يطفئها، وجاؤوا بأرذال الخلق من روسيا وإيران وأعطوهم كافة الصلاحيات ليوقفوا هذا السيل... بالدماء، بالقصف، والاعتقالات، ولكن كل جريمة ارتكبوها زادت الثورة اشتعالًا، وأكدت أن الشعب السوري لن يرضخ بعد أن ذاق طعم الحرية.

ومع اشتداد الضغوط على الثوار، انحصرت الثورة في إدلب، تلك الأرض التي أصبحت تمثل آخر معقل للثوار. اعتقد العالم أن الثورة قد انتهت، وأن الحزب الظالم سيظل يتحكم في مصير سوريا، لكن إدلب كانت تكتب قصة جديدة، وتحتضن الثورة حية، وقوية، وتنتظر اللحظة المناسبة لتردع عدوان البعث إلى الأبد.

بقلم: عبد الرحمن ياسين علوش 

مشاركة
نشرة عبد الرحمن علوش البريدية

نشرة عبد الرحمن علوش البريدية

عبد الرحمن ياسين علوش، كاتب سوري من مدينة إدلب، له إسهامات متميزة في الفكر والوعي، من أبرز أعماله مقال: "العقول المستعمَرة" ومقال: "برمجة العقول الناشئة" وقد قدم بصمة ثورية في "بقايا وطن"، ليصبح الحرف لديه شاهدًا على أوجاع الأمة وآمالها. لعبد الرحمن العديد من الكتابات الدعوية التي تُنشر بشكل دائم على منصة إشراقات التابعة لوزارة الأوقاف والدعوة والإرشاد في مدينة إدلب. "القلم أمانة، والكلمة وعد"—بهذا الإيمان يسير عبد الرحمن، مستعينًا بالله ومتخذًا من الكتابة رسالة حياة.

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة عبد الرحمن علوش البريدية