شـامـل | «المراهقة».. حين يبتدع الإنسان مسلماته | العدد #25

22 يوليو 2025 بواسطة أحـمـد الحـجـيلـي #العدد 25 عرض في المتصفح
لطالما وقعنا في كثير من المسلّمات الغربية الحديثة، وصرنا دون أن نشعر ندافع عنها ونرفض أي مساس بها. وهذا إن دلّ على شيء، فهو يدل على حجم الاختراق الثقافي الذي مُورس علينا دون وعي. وعلّي أن أسلّط الضوء على واحدة من أغرب هذه المسلّمات التي لم أتقبلها يومًا ولم أعترف بها كحقيقة مطلقة، وهي مصطلح "المراهقة ". هذا المصطلح الشائع قولًا والغريب فعلًا، لم يكن له أي أثر يُذكر في تاريخنا الإسلامي، بل إن العجيب أنه حتى في الثقافات الأخرى لم يكن له مدلول لا ثقافي ولا جسدي قبل القرن العشرين. إذ اعتاد الإنسان، طوال تاريخه، على المرور بثلاث مراحل لا رابع لها: الطفولة، والبلوغ، والشيخوخة. ولكل مرحلة خصائصها الجسدية والفسيولوجية والنفسية. غير أن هذا التصنيف المستحدث أوجد طورًا جديدًا بين البلوغ والرشد، يُفترض فيه هوية جديدة، أقلّ ما يُقال عنها إنها تصنيف اجتماعي مُفتعل، لا يختلف في طبيعته عن موجة التصنيفات المعاصرة التي تُعاد فيها صياغة الطبيعة الإنسانية خارج إطارها الفطري. وللأسف، فإن الثقافات الهشّة، التي ترزح تحت الهيمنة الثقافية والسياسية لصاحب النفوذ، تظلّ أكثر عُرضة لتقبّل كل ما يردها دون تمحيص، حتى لو خالف فطرتها وعقيدتها.

المراهقة: اصطلاح متأخر ومفهوم هش

قبل القرن العشرين، لم تكن المجتمعات التقليدية تعرف هذا الترف المفاهيمي الذي أنتجته الحداثة الغربية، والذي أسهم في تشكيل أجيال اكتملت أجسادها قبل أن تكتمل طبائعها، فصار مظهرها رجوليًا، وسلوكها أقرب إلى الطفولة. تلك المجتمعات ـ وخاصة الزراعية ـ لم تكن ترى البلوغ إلا كفاصل حاسم بين الطفولة والرجولة، ولم يكن هناك وقت ولا حاجة لاختراع منطقة رمادية بين المرحلتين. وفي ثقافتنا الإسلامية، نجد دلائل واضحة تنقض هذا المفهوم؛ فالتكليف الشرعي يبدأ مع البلوغ، ويُلزم المسلم بجميع العبادات والفرائض، ويُحمّله تبعات أفعاله إلا إن تاب. بل إن النصوص الإسلامية شجعت على تحمّل المسؤولية، بل وعلى القتال والعمل منذ سنّ البلوغ. وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما في "الصحيحين"، قال: "عرضت على النبي ﷺ يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يُجزني، وعُرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني". وفي رواية: "ورآني قد بلغت"، مما يدل على أن من أتم الخامسة عشرة يُعد رجلًا مكلّفًا، لا صبيًّا بين مرحلتين. ما يُفهم من ذلك أن هذا الاصطلاح المستحدث، الذي لا يستند إلى تحولات فسيولوجية حقيقية، لم يكن يومًا جزءًا من التصور الإسلامي أو حتى الفطري للإنسان، وإنما هو نتاج معايير اجتماعية حديثة جاءت لتتماشى مع حاجات السوق وتطورات النظام التعليمي.

الهروب إلى التفسير النفسي

ولأن هذه المنظومة تفتقر إلى دلائل جسدية تدعم رؤيتها، فقد التجأت إلى التفسير النفسي، فرسمت صورة نمطية للشباب في هذا السن، بأنهم في حالة "اضطراب" و"تمرد" و"صعوبة في التحكم بالسلوك"، وكأنها تبرر تصرفاتهم تحت مظلة هذه المرحلة الانتقالية. لكن هذه الانفعالات ليست دليلًا قاطعًا على مرحلة عمرية، بقدر ما هي رد فعل لسلوك المجتمع تجاههم. حين يُعامل الشاب كطفل، فمن الطبيعي أن يتمرد ليؤكد أنه لم يعُد كذلك. في المقابل، حين يُعامل كبار السن وكأنهم فقدوا أهليتهم، قد يصدر عنهم ذات السلوك الانفعالي، ليثبتوا أنهم ما زالوا قادرين وعاقلين. فالسلوك المتوتر ليس دليلًا على عمر، بل نتيجة لمعادلة نفسية بين "الرفض" و"الإثبات". الشاب يريد أن يثبت أنه لم يعد طفلًا، والشيخ يريد أن يثبت أنه لم يصبح عاجزًا. لا هذه ولا تلك تصلح كدليل علمي على وجود مرحلة انتقالية تُدعى "المراهقة". 

حتى البلوغ، الذي قد يُستشهد به كمبرر نفسي، هو في الأصل انتقال طبيعي من الطفولة إلى الرجولة، وليس إلى حالة ضبابية تسمى "المراهقة". ثم إذا سلّمنا بوجود هذه المرحلة، فمتى تنتهي؟ البعض يحددها بسن الواحدة والعشرين، لكن ما الذي يحدث في الجسد أو النفس عند هذا العمر تحديدًا؟ لماذا ليس الخامسة والعشرين؟ أو الثلاثين؟ السبب ببساطة أن هذا التقسيم يخدم النظام التعليمي والاقتصادي الحديث، الذي يُخرج الفرد من المدرسة إلى سوق العمل عند هذه السن، فجُعل هذا السن نهاية "المراهقة"، لا بناءً على معيار بيولوجي، بل على احتياج وظيفي.

في الختام

إن مصطلح "المراهقة"، كما قُدّم إلينا، ليس مجرد تصنيف بريء في كتب التربية، بل هو نموذج صارخ على كيف يمكن لمفهوم حديث أن يزاحم الفطرة، ويُعاد تشكيل وعي الناس بهدوء. لقد قُدّم هذا المفهوم على أنه تطور علمي، بينما هو في جوهره إعادة صياغة للإنسان، تفرغه من مسؤوليته في لحظة البلوغ، وتضعه في منطقة ضبابية بين الطفولة والرشد، لا يُطلب فيها منه شيء، ولا يُنتظر منه شيء. إننا لا نعترض على مراحل النمو البشري، لكننا نعترض على تحويل الطفرات الطبيعية إلى أعذار ثقافية تؤجل النضج، وتبرر التراخي، وتنتج جيلًا مُربكًا: بجسد مكتمل، وبفهم غير مكتمل. لقد آن الأوان أن نستعيد وعيَنا التربوي من هيمنة المصطلحات الوافدة، لا بالتجاهل، بل بالفهم والمراجعة والغربلة. فكل ما يُخالف فطرتنا وعقيدتنا، لا يُمكن أن يُثمر استقرارًا لا في الفرد، ولا في الأسرة، ولا في المجتمع. ولعل أخطر ما في الأمر أن التنازل في مرحلة واحدة قد يمهّد الطريق لمفاهيم أخرى، أكثر تفكيكًا، وأكثر تأثيرًا، تسلّلت هي الأخرى باسم العلم والحرية والحقوق. وإن لم نقف اليوم وقفة مراجعة جادّة، فإن القادم لن يكون مجرد اصطلاح جديد، بل إعادة تعريف كاملة للإنسان كما نعرفه.

مشاركة
شـامـل

شـامـل

«شـامـل» | نشرة بريدية أسبوعية 📩 تُكتب من صُلب أفكار أحمد الحجيلي، ولأن كل فكرة تستحق أن تُروى كاملة، فـ «شـامـل» نشرة شاملة. «شـامـل» ليست مجرد نشرة، بل رحلة فكرية تأخذ قرّاءها إلى زوايا الأدب، والفكر، والثقافة، والتأملات النقدية، وحتى التساؤلات العابرة التي قد تقود إلى رؤى جديدة. لا تتبع خطًا واحدًا، ولا تلتزم بقالب جامد، بل تنمو مع كل عدد، تمامًا كما تنمو الأفكار في العقول، والأزهار في الحقول. في «شـامـل» لا أعدك بموضوعات تُقرأ وحسب، بل بمحتوى يحفّز عقلك، ويثير فضولك، ويفتح أمامك نوافذ جديدة على العالم. 📌 سوف تجد في «شـامـل» ☘ مقالات متنوعة تتناول كل ما يستحق القراءة والتأمل. ☘ تحليلات نقدية تُعيد النظر في الأفكار السائدة. ☘ مساحة مفتوحة لاكتشاف الجديد والمختلف. ☘ محتوى بلا قيود، كالفكرة التي تلهمنا دائمًا. في «شـامـل» الفكرة ليست النهاية، بل البداية لحوار جديد. — اشترك الآن، ودع الأفكار تأخذك في رحلة بين شِعاب عقل الكاتب، إلى أماكن لم تخطر ببالك!

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من شـامـل