شـامـل | بين الشاشة والحياة: كيف نوازن بين الهوية الرقمية والواقعية؟ | العدد #29 |
19 أغسطس 2025 • بواسطة أحـمـد الحـجـيلـي • #العدد 29 • عرض في المتصفح |
في عالم باتت فيه الأصابع تقرأ أكثر من العيون، والشاشات أصبحت نافذتنا على الحياة، لم يعد الإنترنت مجرد أداة تسهيل، بل أصبح جزءًا من كينونتنا اليومية. قبل ظهوره، كان للحياة رونقها الخاص والزمن يمر بوتيرة طبيعية، أما اليوم، فقد كبرنا في ظل الشاشات، نتنقل بين الرسائل والإشعارات، ونغرق أحيانًا في عالم افتراضي يوازي، وأحيانًا يتجاوز، واقعنا اليومي. ومع الطفرة الهائلة في الذكاء الاصطناعي، أصبح السؤال محوريًا: كيف نحافظ على هويتنا الواقعية بينما نصنع ونعيش هويتنا الرقمية؟ ولماذا يلجأ البعض لتعزيز حضورهم الرقمي بينما تتلاشى ملامح حياتهم الحقيقية؟
|
|
لماذا نعزز هويتنا الرقمية؟ |
الانغماس الرقمي ليس عبثًا، بل له دوافع نفسية وسلوكية واضحة: |
1- المواكبة والتأثير الاجتماعي: الإنسان يسعى بطبيعته لمجاراة من حوله. دراسة جامعة أكسفورد عام 2019 على أكثر من 12,000 مراهق أظهرت أن نوعية استخدام وسائل التواصل الاجتماعي تحدد شعور الفرد بالرضا والانتماء، وليس مجرد الوقت الذي يقضيه على الشبكة. نحن نتابع ما هو شائع، نشارك، ونجد في ذلك شعورًا يتماشى مع عصرنا. |
2- الهروب من الواقع: أحيانًا يكون العالم الرقمي ملاذًا من ضغوط الحياة اليومية. دراسة جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس عام 2018 بينت أن المراهقين يشعرون بمتعة مماثلة عند تلقي "الإعجابات" على صورهم كما عند الفوز بمكافأة مالية، ما يعزز ارتباطهم العاطفي بالفضاء الرقمي ويشرح انجذابهم له. |
3- بناء ذات بديلة: كثيرون يستخدمون الإنترنت لصياغة نسخة محسّنة من أنفسهم. دراسة جامعة كاليفورنيا عام 2018 أظهرت أن 62% من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي يقدمون نسخة معدلة عن ذواتهم الحقيقية، مبرزين نقاط القوة وإخفاء ما لا يحبون من جوانبهم. الإنترنت هنا يصبح مسرحًا للذات التي نريد أن نرى ونظهرها للعالم. |
الهيمنة الرقمية كبنية تحتية للحياة |
الرقمنة اليوم ليست رفاهية، بل جزء أساسي من حياتنا اليومية. من المعاملات الحكومية إلى التسوق، وحتى متابعة الأخبار أو التعلم، أصبح الاعتماد الرقمي ضرورة. مع الوقت، تتحول هذه العادة إلى جزء من هويتنا وسلوكنا، بحيث يصعب الانفكاك عنها، حتى لمن يحاول الحد منها. الهوية الرقمية تتغلغل تدريجيًا في قراراتنا اليومية، من تنظيم المواعيد إلى إدارة الوقت، وحتى اختياراتنا الاجتماعية. دراسة جامعة هارفارد عام 2021 بينت أن الاعتياد على الأتمتة والخدمات الرقمية يعيد تشكيل أنماط التفاعل الاجتماعي ويقلل فرص التواصل الوجاهي بنسبة تصل إلى 25% لدى الشباب، ما يؤكد تأثير الرقمنة على الروابط الإنسانية التقليدية. |
![]() |
حين يختفي الحضور الواقعي |
مهما تكن براعة هويتنا الرقمية، لا يمكن للشاشات أن تحل محل التفاعل البشري الحقيقي. الأطفال يحتاجون إلى حضوره الجسدي ودفء مشاعرنا، لا مجرد تفاعلات افتراضية. لحظة الجلوس معهم، اللعب المشترك، تبادل الحديث والضحك، هي ما يبني ذكرياتهم ويشكل شخصيتهم. دراسة جامعة ستانفورد عام 2022 أكدت أن التفاعل الوجاهي بين الآباء والأبناء يعزز مهارات التعاطف وتنظيم العواطف بنسبة 30% أعلى من أي تواصل عبر الأجهزة، لتبرز أن الحضور الواقعي لا يعوَّض. |
كيف نوازن بين الهويتين؟ |
التوازن يبدأ بالوعي والسيطرة، لا الانغماس التام ولا الانقطاع الكلي. الهوية الرقمية يجب أن تخدم حياتنا الواقعية، لا أن تبتلعها. علينا اختيار المحتوى الذي نستهلكه وننتجه بعناية، وتخصيص أوقات خالية من الشاشات لنعيش التجربة الإنسانية كاملة: الحوار، اللعب، اللحظات الصادقة مع العائلة والأصدقاء. دراسة جامعة ملبورن عام 2020 أظهرت أن وضع قواعد مرنة للاستخدام الرقمي داخل الأسرة يقلل شعور العزلة ويحسن جودة النوم لدى المراهقين، ما يوضح أهمية تنظيم التكنولوجيا بدل السماح لها بالتحكم في حياتنا. |
الخاتمة |
الإنترنت والذكاء الاصطناعي أدوات عظيمة، لكنها مجرد وسائل في يد الإنسان. الهوية الرقمية يجب أن تخدم حياتنا الواقعية، لا أن تبتلعها. التوازن يتحقق عندما نكون نحن المتحكم في شاشتنا، وليس العكس. الحضور الواقعي، لمسة اليد على كتف من نحب، النظرة الصادقة في العين، كلها عناصر لا يمكن لأي تقنية أن تحاكيها. في عالم يزداد رقمية يومًا بعد يوم، يصبح التوازن بين الهوية الرقمية والواقعية ضرورة للحفاظ على إنسانيتنا وامتدادًا لذواتنا الحقيقية، لا مجرد نسخة افتراضية. |
التعليقات