شـامـل | فـي يوم الترجمة العالمي: المترجم جسر يُفهم به العقول ومدماك يؤطر الفصول | العدد #35 |
30 سبتمبر 2025 • بواسطة أحـمـد الحـجـيلـي • #العدد 35 • عرض في المتصفح |
يصادف اليوم الثلاثون من سبتمبر "اليوم الدولي للترجمة"، الذي أقرّته الأمم المتحدة عام 2017 تكريمًا لهذه المهنة النبيلة. وقد جرى اختيار هذا التاريخ لأنه يوافق ذكرى وفاة القديس "جيروم" مترجم الكتاب المقدس إلى اللاتينية، والذي عُدّ رمزًا للمترجمين عبر العصور. ولعلّ الترجمة لم تكن يومًا مجرّد وسيلة لنقل الكلمات من لغة إلى أخرى، بل كانت شاهدًا صامتًا على كثير من الأحداث المفصلية في التاريخ، ورفيقًا للإنسان في مسيرته الحضارية. فالمترجم هو الناقل الأمين لأقوال غيره، الكابح لمشاعره، الحارس للأسرار التي مرّت بين يديه دون أن يفشيها، حتى غدا شاهدًا حاضرًا وغائبًا في آن واحد. وإن كان في الترجمة نُبل، ففيها أيضًا مشقّة، إذ يُجبر المترجم أحيانًا على أن ينطق بما لا يتفق معه عقله، أو أن يكون الصامت المشارك في أخطر اللحظات دون أن يُسمع صوته.
|
|
ترجمة الأفعال أكثر بلاغة |
ليست الترجمة الفورية وحدها هي مجال المترجم، بل إنّ أول ما عرفت الإنسانية من ترجمة كان على الصعيد الديني. فالتجار المسلمون الذين جابوا البحار والبراري لم يكونوا يترجمون لغةً بقدر ما كانوا يترجمون دينًا وأخلاقًا وسلوكًا. فحيثما حلّوا، صلّوا وصاموا وتصدّقوا، وأبانوا بأفعالهم معنى الكرم والصدق والأمانة. هكذا تجسّدت "الترجمة" في أبهى صورها: ترجمة القيم إلى واقع، وترجمة الإيمان إلى ممارسة. وما دخول الإسلام إلى إندونيسيا مثالًا إلا دليل على أثر هذه الترجمة الصامتة، إذ دخل الناس في دين الله لا بحدّ السيف، بل بلسان الصدق وسموّ الخُلُق. |
وعلى صعيد آخر، شكّلت حركة الترجمة في الحضارة الإسلامية رافدًا أساسيًا لنشر علوم الشريعة إلى الشعوب غير العربية. فترجمت كتب الحديث والفقه والتفسير، وتُرجمت معها مفاهيم الدين إلى لغات متعددة، حتى بات المسلمون من غير العرب شركاء في فهم النصّ وممارسة الدين، دون أن يحول صعوبة العربية بينهم وبين معارفها. وكانت هذه الترجمات جسرًا متينًا ساعد على حفظ التراث الإسلامي وتوسيع دائرة تأثيره. |
أدب عابر للحدود |
وللمترجمين فضل عظيم في إيصال التراث العالمي إلينا، وبخاصة الأدب الأوروبي. فمن دونهم لظلّت معارفنا عن آداب الأمم الأخرى محدودة، ولكنا في جهل بما يعتمل داخل المجتمعات البعيدة عنّا. لقد أطلّت الترجمة بنا على عالم الرواية والمسرح والشعر الغربي، فوسّعت ذائقتنا الأدبية وفتحت أمام كتّابنا آفاقًا جديدة في الأسلوب والبناء الفني. ومن خلالها تعرّفنا لا على "صورة أوروبا التي أرادت دولها أن تصدّرها لنا"، بل على واقع شعوبها من الداخل، على معاناتها وتمرّدها، وعلى تفاصيل حياتها البسيطة والمركّبة معًا. وهكذا لم تعد الترجمة مجرد كلمات منقولة، بل صارت أداة لفهم الآخر والاقتراب من إنسانيته. |
![]() |
ميادين الثقافة |
ولم تقف الترجمة عند حدود الدين والأدب، بل امتدت إلى ميادين الثقافة اليومية. فقد ترجمت الشعوب تراثها وإرثها الحضاري إلى لغات العالم المختلفة، وأصدرت الدوريات والنشرات والكتب لتعريف الآخرين بما لديها. وهذه الترجمات الثقافية بنت صروحًا من المعرفة، وأرست دعائم التفاهم بين الحضارات، وأثبتت أن الكلمة المنقولة ليست مجرد رمز مكتوب، بل مدماك في صرح إنساني مشترك. |
حين يشكّل المترجم حروف المعنى |
ليس عمل المترجم مهمة يسيرة، بل هو من أصعب الأدوار التي تستوجب صفاء ذهن، وسعة معرفة، وحسن إدراك للمعنى. فالمترجم ليس وعاءً ناقلًا، بل عقلٌ واعٍ يُعيد صياغة الرسائل وفق سياقها الثقافي والسياسي والاجتماعي. إذ لا تكفي معرفة المفردات، بل يجب الإلمام العميق بالثقافة الأصلية والمستهدفة معًا. فكثير من العبارات الشائعة لا تُترجم حرفيًا، بل يُبحث لها عن معادل ثقافي، كما هو الحال مع التعبير العربي "أوهن من بيت العنكبوت" الذي يُقابله في الثقافة الغربية "نمر من ورق". هذا الوعي الثقافي هو ما يميز المترجم البارع عن الناقل الحرفي. |
الخاتمة |
في هذا اليوم العالمي للترجمة، نتذكر أن المترجم ليس مجرّد ناقل للنصوص، بل هو جسر بين العقول، وصوت بين الثقافات، وشاهد على حركة التاريخ. لقد كانت الترجمة ولا تزال أداة لنشر الدين، وحفظ التراث، وإغناء الأدب، وتعزيز التفاهم بين الأمم. ومن هنا، فإن تكريم المترجمين ليس احتفاءً بمهنة وحسب، بل اعترافٌ بفضل جيلٍ من الجنود المجهولين الذين أعادوا صياغة العالم بلغة يفهمها الجميع. |
التعليقات