شـامـل | الكيّ بلسم التحرر: حماية الذات من هيمنة مصاصي المشاعر | العدد #40 |
| 4 نوفمبر 2025 • بواسطة أحـمـد الحـجـيلـي • #العدد 40 • عرض في المتصفح |
|
في الحياة، لا يمر الإنسان إلا بمواقف تتطلب منه قرارات حاسمة تشبه الكيّ؛ مؤلمة في ظاهرها، منقذة في جوهرها. فكما يستخدم الأطباء الكيّ لمنع تفشي الأذى في الجسد، يضطر العقل أحيانًا إلى ممارسة الكيّ النفسي لحماية النفس من علاقات أو بيئات سامة تهدد توازنه الداخلي.الكيّ هنا ليس فعل قاسي، بل رمز للوعي والقدرة على الحسم، حين يدرك الإنسان أن بقاءه في وضع مؤذٍ لم يعد دليل صبر، بل إهمال لكرامته وطاقته. وهو ما يظهر بوضوح عند التعامل مع فئة تُعرف بـ"مصاصي المشاعر" — أشخاص يتغذون على ضعف غيرهم، ويمارسون سيطرة ناعمة عبر التناقض، التلاعب، والإسقاط النفسي المتقن.
|
|
|
مصاصو المشاعر: آلية السيطرة والتناقض المقصود |
|
مصاصو المشاعر ليسوا مجرد شخصيات صعبة، بل أنماط بشرية تتقن فن التحكم العاطفي. يتحركون داخل العلاقات بوعيٍ عالٍ بمفاتيح التأثير على الآخرين، فيجمعون بين نقيضين: الود الظاهري والهيمنة الخفية. يميلون إلى التناقض المقصود — فيظهرون التعاطف حين يخدم غاياتهم، ويختفون حين لا تتحقق مصالحهم. بهذا التبدل المدروس، يربكون محيطهم ويفرضون واقعًا من الغموض يجعل السيطرة أسهل، والأدهى أنهم يظنون من حولهم غافلين، بينما هم الأكثر تغافلاً عن حقيقتهم، وإن بدوا أكثر رصداً للآخرين. |
|
هم كذلك يتقنون فن الإسقاط: ينكرون أخطاءهم، فيسقطونها على الآخرين. من أنانيّتهم يولد اتهامهم للآخرين بالأنانية، ومن قسوتهم تأتي دعواهم بأنهم الضحايا. إنهم يعيدون تشكيل الحقائق بما يخدم سرديتهم الخاصة، ليظلوا في موقع المتحكم، دون تحمل أي مسؤولية أخلاقية. |
|
يُظهر سلوكهم مزيجًا من الذكاء الانفعالي السلبي، حيث يستخدمون فهمهم للمشاعر لا لبناء الثقة، بل لتوجيهها والسيطرة بها. الحقيقة لديهم ليست قيمة، بل أداة؛ والمشاعر ليست رابطًا إنسانيًا، بل وسيلة نفوذ. |
|
الإسقاط: آلية الأنانية المقنّعة |
|
من أبرز سماتهم الأنانية التي لا تراها إلا في انعكاسها عليك. فهم لا يعترفون بها في أنفسهم، بل يرمونها على غيرهم في عملية إسقاط نفسي تبريرية. هذه الآلية تمنحهم شعورًا زائفًا بالبراءة، وتُبقيهم في موضع الاتهام للآخرين دائمًا. |
|
الإسقاط هنا ليس مجرد سلوك فردي، بل آلية دفاعية معقدة تهدف لتجنب مواجهة الذات. فبدلاً من مراجعة دوافعهم وسلوكهم، يعيدون صياغة الواقع بحيث يصبح الطرف الآخر هو المخطئ، وهو المسيطر، وهو الأناني. بذلك، يحافظون على صورة مثالية للذات، ولو على حساب الحقيقة والعدالة. |
التحرر: وعيٌ يحمي لا هروبٌ يبرر |
|
التحرر من هذا النوع من العلاقات لا يعني الانسحاب، بل اختيار الوعي كأداة حماية. حين يدرك الإنسان أن وجوده في علاقة قائمة على السيطرة والتناقض ليس التزامًا، بل استنزافًا، يصبح التحرر فعلاً من أفعال النضج لا التمرد. |
|
التحرر هنا هو إعادة تعريف الذات في مواجهة التلاعب، وتثبيت الحدود النفسية بوضوح وهدوء. هو إعلان استقلال داخلي يحفظ الكرامة، ويعيد التوازن بين العطاء والحماية. فالقوة لا تُقاس بالقدرة على التحمل، بل بالقدرة على التوقف عندما يتحول التحمل إلى إلغاء للذات. |
الخاتمة |
|
الكيّ ليس دعوة إلى القطيعة، بل دعوة إلى الوعي. كما يحمي الكي الجسد من التآكل، يحمي التحرر النفس من الانهيار البطيء تحت ضغط السيطرة العاطفية والإسقاطات المتكررة. الحياة ليست ساحة لإثبات القدرة على التحمل أمام من يمارس الأنانية باسم القرب، بل مساحة لبناء علاقات ناضجة تقوم على الوعي والاحترام المتبادل. |
|
إن أعظم صور القوة هي أن تعرف متى تنهي ما يهدد اتزانك، ومتى تمضي بثقة دون ضجيج أو تبرير. فكل قرار واعٍ بحماية النفس هو في جوهره فعل حبٍّ راقٍ للذات، وفصل جديد من الحرية التي تُبنى على الوعي لا على الهروب. |



التعليقات