شـامـل | الحروب الإعلامية: معارك بين السطور تتلاعب بالوعي والجمهور | العدد #36

7 أكتوبر 2025 بواسطة أحـمـد الحـجـيلـي #العدد 36 عرض في المتصفح
في عالمٍ يتسارع كإيقاع قلب الإنسان في لحظة خوف، لم تعد الحروب تُخاض بالمدافع والدبابات وحدها، بل بالكلمة والصورة والصوت. الإعلام اليوم لم يعد مجرد مرآة للحقائق، بل أصبح سيفًا خفيًا يقطع العقول ويشكّل المواقف، وريشةً قوية تُعيد رسم الواقع حسب رؤية صانعها. هذه هي الحروب الإعلامية، التي تتسلّل إلى العقول بصمتٍ قاتل، فتترك أثرًا أعمق من دوي المدافع وأشد وقعًا من انفجارات المعارك، تغيّر موازين القوى دون طلقة واحدة.جوهر هذه الحروب أنها لا تستهدف الأجساد، بل العقل الجمعي، فتزرع الشكّ، وتغذي الانقسام، وتعيد تشكيل الوعي بما يخدم مصالح محددة. عبر التاريخ، تحوّلت الكلمة من قصصٍ وأساطير وأهازيج إلى مطبوعات وراديو وتلفاز، ثم إلى موجات رقمية تنتشر في كل أنحاء العالم، لتصبح الكلمة اليوم سلاحًا ناعمًا، لكنه قادر على توجيه مصير الأمم قبل أن تُرفع أي راية حرب.

جذور الحروب الإعلامية وتطورها

الحروب الإعلامية بدأت مع أول رسائل بشرية، حين استخدم الإنسان الكلمات لتحفيز الجماهير أو زرع الخوف. مع الطباعة والراديو والتلفاز، تحوّل الصوت والصورة إلى أدوات ساحرة للسيطرة على الفكر. مع الثورة الرقمية، أصبح كل هاتف ذكي منصة للحرب، وكل منشور سهم دقيق يزرع في العقل فكرة أو شعورًا، حتى غدت الحروب الإعلامية معارك الوعي الجماعي، حيث تتصارع الحقائق والأكاذيب في ساحة لا تُرى، لكن أثرها يُحسّ بعمق.

مع تسارع الوسائل الرقمية وتحولها إلى أدوات نفوذ، أصبح من الضروري دراسة تأثير الإعلام على الوعي الجمعي لفهم مدى قوة هذه الحروب الحديثة. على سبيل المثال، أظهرت دراسة جامعة كامبريدج عام 2018 عبر تجربة لعبة "Bad News" أن تدريب الأفراد على التعرف على التضليل الإعلامي يزيد من مقاومتهم للأخبار المزيفة، مما يوضح كيف يمكن للأدوات الرقمية أن تشكّل وعي الجمهور أو تحميه من التلاعب.

الأهداف الخفية للحروب الإعلامية

لفهم عمق الاستراتيجية الإعلامية، من المفيد النظر إلى الأمثلة الواقعية التي تبين كيفية توجيه الرأي العام على نطاق واسع. دراسة جامعة ستانفورد 2020 سلّطت الضوء على حملات التضليل التي تنفذها الجهات المؤثرة في الإعلام، ما يثبت أن الإعلام أصبح سلاحًا منظمًا وفعالًا في التأثير على الوعي والمواقف، بما يتجاوز مجرد الأخبار السطحية.

تسعى الحروب الإعلامية إلى تحقيق أهدافٍ متشابكة، بعضها ظاهر والآخر خفي. فبينما تُقدَّم الرسائل الإعلامية تحت شعارات الحرية والشفافية، فإن جوهرها في كثير من الأحيان يتمثل في التأثير على الإدراك الجمعي وتوجيهه نحو تبنّي مواقف تخدم مصالح سياسية أو أيديولوجية.

أساليب الحرب الإعلامية

مع تنامي التقدم التكنولوجي، صارت وسائل التواصل الاجتماعي مسرحًا لصراعات رقمية مركّبة، حيث تُستخدم البيانات والتقنيات النفسية لصناعة الرسائل المؤثرة. تقرير جامعة أكسفورد 2021 أبرز كيف أن الحملات المنظمة عبر المنصات الاجتماعية يمكن أن تؤثر في الإدراك الجمعي للجمهور بشكل كبير، ما يجعل كل منشور أو تغريدة جزءًا من معركة مستمرة للسيطرة على الوعي.

لم يعد الأمر مجرد نشر الأخبار الكاذبة أو الصور المفبركة؛ بل أصبح فنًا متقنًا يستخدم تقنيات التحليل النفسي والإدراكي لاستهداف الجمهور حسب نقاط ضعفه العاطفية والفكرية، وتحويل كل تفاعل إلى جزء من الصراع على وعي الناس. وزيادة على ذلك، تُصاغ الرسائل بحيث تنسجم مع هياكل المعاني والمشاعر السائدة لدى الجماهير؛ تُستثمر الكلمات القصيرة والصور المختصرة والإيقاعات المتكررة لتشكيل «نغمة» نفسية تقود المتلقي إلى استجابات تلقائية. تُراهن هذه الأساليب على الزوايا العاطفية: الخوف، الغضب، الحنين، والشعور بالظلم، فتدور الرسالة حول إثارة العاطفة أكثر من تقديم دليل، وتقوم بإعادة تلفيق السياق حتى تبدو زوايا الحقيقة خاضعة للتفسير. بهذا الأسلوب تصبح كل منشور نقطة ضغط نفسية، وكل حملة سلسلة من نبضات تُجهد صلابة الرأي وتفكك الثوابت تدريجيًا.

تأثير الحروب الإعلامية على الوعي

الحروب الإعلامية لا تُقاس بالدم أو الدمار، بل بالعمق الذي تغوص فيه في العقل الجمعي، حيث تصبح الأفكار ساحة معركة، والمعتقدات خطوط دفاع معرضة للانكسار. فهي تُعيد تشكيل المواقف وتزرع الشك في الثوابت، فتقلب اليقين رأسًا على عقب، وتفكك الثقة الاجتماعية، كأنها تيار هادر ينسف جسور التواصل بين الناس. كل كلمة مضللة، وكل صورة مشوّهة، تصبح رصاصة دقيقة تصيب وعي الجماهير، بينما تظل المعارك غير مرئية للعين، لكنها حاضرة في كل قرار وفعل. في هذا الفضاء، الكلمة أكثر تأثيرًا من المدفع، والرسالة أكثر قدرة على التغيير من أي أداة تقليدية، فالحرب الحقيقية تُخاض على الوعي والضمير قبل أن تُخاض على الأرض.

لمعرفة مدى تأثير الإعلام على المجتمعات، يجب دراسة كيف يغير المحتوى الرقمي سلوك الجماهير ويدمجها في حرب على الحقيقة نفسها. دراسة جامعة هارفارد 2022 كشفت أن التعرض المستمر للأخبار السلبية والمضلّلة يؤدي إلى "تآكل الحقيقة الإدراكي"، ويجعل الجمهور أكثر تقبّلًا للأكاذيب المتكررة، مؤكدًا أن الكلمة اليوم قادرة على تشكيل العقول بقدر ما كانت المدافع تصنع الخراب.

الخاتمة

كما بدأت هذه الحروب بالكلمة، تنتهي بها أيضًا. فالإعلام الذي يستطيع أن يهدم الوعي قادر كذلك على أن يبنيه من جديد، حين يتحرّر من التوجيه، ويعود إلى جوهر رسالته: نقل الحقيقة بموضوعية ومسؤولية. فالكلمة هنا ليست مجرد حروف، بل هي بذور تُزرع في العقل، تنتشر لتشكّل مفاهيم ومواقف، وتعيد بناء الثقة المهدورة، وتفتح الأفق أمام التفكير النقدي. كل خبر صادق، وكل تحليل موضوعي، يمكن أن يكون جسرًا يعيد التوازن إلى الوعي الجمعي، ويعيد تشكيل المشهد العقلي للمجتمع، فكما تهدم الكلمة المغلوطة أركان الإدراك، تستطيع الكلمة المضيئة أن تشيد صرح المعرفة والفهم، وتعيد للوعي قوته وصدقه.

الحروب الإعلامية ليست معركة على أراضٍ أو حدود، بل معركة على العقول والقلوب والضمائر. وبينما كانت المدافع تهدّم الجدران، أصبحت الكلمات تُعيد تشكيل العقول، تمنح الحياة أو تزرع الفوضى بحسب من يُمسك بزمامها. وهكذا تبقى الكلمة أقوى من أي أداة، والصورة أبلغ من الرصاصة، لأن الحرب الإعلامية في جوهرها ليست حربًا على الأوراق، بل حرب على الذات والوعي — ومن يمتلك الوعي، يمتلك المستقبل.

مشاركة
شـامـل

شـامـل

«شـامـل» | نشرة بريدية أسبوعية 📩 تُكتب من صُلب أفكار أحمد الحجيلي، ولأن كل فكرة تستحق أن تُروى كاملة، فـ «شـامـل» نشرة شاملة. «شـامـل» ليست مجرد نشرة، بل رحلة فكرية تأخذ قرّاءها إلى زوايا الأدب، والفكر، والثقافة، والتأملات النقدية، وحتى التساؤلات العابرة التي قد تقود إلى رؤى جديدة. لا تتبع خطًا واحدًا، ولا تلتزم بقالب جامد، بل تنمو مع كل عدد، تمامًا كما تنمو الأفكار في العقول، والأزهار في الحقول. في «شـامـل» لا أعدك بموضوعات تُقرأ وحسب، بل بمحتوى يحفّز عقلك، ويثير فضولك، ويفتح أمامك نوافذ جديدة على العالم. 📌 سوف تجد في «شـامـل» ☘ مقالات متنوعة تتناول كل ما يستحق القراءة والتأمل. ☘ تحليلات نقدية تُعيد النظر في الأفكار السائدة. ☘ مساحة مفتوحة لاكتشاف الجديد والمختلف. ☘ محتوى بلا قيود، كالفكرة التي تلهمنا دائمًا. في «شـامـل» الفكرة ليست النهاية، بل البداية لحوار جديد. — اشترك الآن، ودع الأفكار تأخذك في رحلة بين شِعاب عقل الكاتب، إلى أماكن لم تخطر ببالك!

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من شـامـل