شـامـل | التعليم في سوريا: بين تركة الماضي وتطلعات المستقبل | العدد #28

12 أغسطس 2025 بواسطة أحـمـد الحـجـيلـي #العدد 28 عرض في المتصفح
يعد الاستثمار في التعليم أولى علامات تطور الأمم وازدهارها. فالتاريخ مليء بتجارب دول نهضت من تحت الركام بعد حروب أو فساد مستشرٍ، حين وضعت التعليم في صدارة أولوياتها، فبنت منظومات متكاملة تصنع أجيالًا متعلمة ومثابرة. لكن في المقابل، هناك دول جعلت من التعليم وسيلة لفرض الأيديولوجيا وترسيخ حكم الفرد، كما كان الحال في سوريا لعقود طويلة، حيث استخدم نظام الأسد التعليم أداة لترسيخ صورته وصورة أبيه، بدل أن يكون منارة للعلم والمعرفة.

التعليم في سوريا خلال حكم البعث

لم يبدأ العبث بالتعليم مع وصول بشار الأسد، بل كانت جذوره منذ استيلاء حزب البعث على الحكم في ستينيات القرن الماضي. منذ ذلك الحين، تحولت المدارس إلى منصات لترويج الشعارات الحزبية، والتضييق على من لم ينخرط في الحزب ولو شكليًا. لكن الطامة الكبرى جاءت بعد ما سُمّي بـ"الحركة التصحيحية" عام 1970، عندما استأثر حافظ الأسد بالسلطة وحوّل الوطن إلى مرآة شخصه، والحزب إلى أداة بيد أسرته.

المناهج الدراسية غُرست فيها تمجيدات الرئيس والشعارات البعثية، فيما تقلصت المساحات المخصصة للعلوم الإنسانية والفكر النقدي. وقد وثّق معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى ومركز البحوث والدراسات الإنسانية في الشرق الأوسط هذه الممارسات، مشيرين إلى أن منظمات مثل "طلائع البعث" و"اتحاد شبيبة الثورة" لعبت دورًا مباشرًا في إعادة إنتاج الولاء للنظام منذ المراحل الدراسية الأولى.

آثار الحرب وتحديات الحاضر

مع اندلاع الثورة عام 2011، تلقّى قطاع التعليم ضربة قاصمة. آلاف المدارس دُمّرت أو خرجت عن الخدمة، ونصف البنية التعليمية تقريبًا بات غير صالح للعمل. ووفق تقارير المجلس النرويجي للاجئين، فإن أكثر من 40% من المدارس في سوريا أصبحت غير قابلة للاستخدام، فيما يعيش ملايين الأطفال خارج مقاعد الدراسة، لا سيما في الشمال السوري.

البنية التحتية المتهالكة، ونقص الكوادر المؤهلة، وغياب الاستثمار الجاد من الحكومات المتعاقبة، جعلت التعليم في حالة انهيار شبه كامل في بعض المناطق. حتى قبل الثورة، لم يكن النظام يرى في التعليم أولوية، أما بعدها فقد انشغل بحروبه الداخلية بدل إعادة البناء.

التعليم حق لا يسقط بالتقادم

التعليم ليس امتيازًا، بل حق أساسي لا يُسقطه العمر ولا الظروف. كثير من الشباب السوري، خصوصًا من جيل الثورة، حُرموا من إكمال تعليمهم بسبب التهجير أو ظروف اللجوء القاسية. بعضهم نجح في الخارج حين أُتيحت له الفرصة، وآخرون اضطروا لاختيار لقمة العيش على الكلمة، لا طوعًا بل اضطرارًا.

تقارير اليونيسف والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين تؤكد أن الاستثمار في تعليم هؤلاء الشباب، سواء عبر برامج تعويضية أو فرص دراسية في الداخل والخارج، هو السبيل لضمان عدم ضياع جيل كامل.

ملامح التغيير وإشراقة المستقبل

أواخر عام 2024، ومع التحولات السياسية في البلاد، بدأت تظهر خطوات أولية لإصلاح التعليم. فقد أعلنت وزارة التربية عن إزالة كل المواد الدعائية المرتبطة بحزب البعث من المناهج، كما ذكرت وكالة رويترز، وبدأت مراجعات أوسع للمحتوى التعليمي. ورغم أن الطريق طويل، فإن هذه الخطوة تمثل بداية مهمة لإعادة تعريف مفهوم الوطنية بعيدًا عن الولاء للأفراد، وربطه بالمعرفة والبحث العلمي.

لكن الإصلاح الحقيقي لن يتحقق بمجرد حذف صور أو شعارات، بل يحتاج إلى خطة شاملة: إعادة إعمار المدارس، تأهيل المعلمين، تحديث المناهج، وربط التعليم بسوق العمل والابتكار.

خاتمة لبداية مشرقة

الاستثمار في التعليم هو النبراس الذي يُنير طريق المستقبل. الفرق بين العلم الأخضر والعلم الأحمر في تاريخ سوريا لم يكن مجرد لون، بل كان فارقًا بين النور والظلام، بين مجتمع يسعى للمعرفة وآخر يرضخ للدعاية. ورغم الظروف الاقتصادية الصعبة، فإن كل جهد يُبذل اليوم لتعليم الطفل السوري سيعود أضعافًا مضاعفة على البلاد في المستقبل. على السوريين أن يلتقطوا هذه اللحظة التاريخية لإعادة تقديم أنفسهم كشعب يتعلم بسرعة وينتج بإبداع، حتى في أحلك الظروف.

مشاركة
شـامـل

شـامـل

«شـامـل» | نشرة بريدية أسبوعية 📩 تُكتب من صُلب أفكار أحمد الحجيلي، ولأن كل فكرة تستحق أن تُروى كاملة، فـ «شـامـل» نشرة شاملة. «شـامـل» ليست مجرد نشرة، بل رحلة فكرية تأخذ قرّاءها إلى زوايا الأدب، والفكر، والثقافة، والتأملات النقدية، وحتى التساؤلات العابرة التي قد تقود إلى رؤى جديدة. لا تتبع خطًا واحدًا، ولا تلتزم بقالب جامد، بل تنمو مع كل عدد، تمامًا كما تنمو الأفكار في العقول، والأزهار في الحقول. في «شـامـل» لا أعدك بموضوعات تُقرأ وحسب، بل بمحتوى يحفّز عقلك، ويثير فضولك، ويفتح أمامك نوافذ جديدة على العالم. 📌 سوف تجد في «شـامـل» ☘ مقالات متنوعة تتناول كل ما يستحق القراءة والتأمل. ☘ تحليلات نقدية تُعيد النظر في الأفكار السائدة. ☘ مساحة مفتوحة لاكتشاف الجديد والمختلف. ☘ محتوى بلا قيود، كالفكرة التي تلهمنا دائمًا. في «شـامـل» الفكرة ليست النهاية، بل البداية لحوار جديد. — اشترك الآن، ودع الأفكار تأخذك في رحلة بين شِعاب عقل الكاتب، إلى أماكن لم تخطر ببالك!

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من شـامـل