شـامـل | في انتظار جودو: حين يصبح الانتظار قدرًا إنسانيًا | العدد #27 |
5 أغسطس 2025 • بواسطة أحـمـد الحـجـيلـي • #العدد 27 • عرض في المتصفح |
تُعد مسرحية في انتظار جودو لصامويل بكيت واحدة من أكثر الأعمال تأثيرًا في تاريخ المسرح الحديث، لا لأنها طرحت قصة درامية مألوفة، بل لأنها خالفت كل ما هو مألوف. من خلال شخصيتين تنتظران خلاصًا لا يأتي، تضع المسرحية الإنسان المعاصر أمام مرآة عاكسة لتيهه، وفراغه، وشكوكه. إنها مسرحية عن اللاحدث، وعن يوميات بلا جدوى، وعن بحث الإنسان عن معنى لا يعثر عليه. بكيت، بتجريده المسرحي وتقشفه اللغوي، قدّم عملًا لا يهدف لإرضاء الجمهور، بل لزعزعة يقيناته ودفعه نحو التأمل في مصيره، وهذا ما يجعل المسرحية أكثر من مجرد نص أدبي؛ إنها تجربة وجودية معقدة. في هذا المقال، أتناول أبعاد هذا العمل من حيث البناء الفني، والفكر الفلسفي، وتأثيره الأدبي، وإسقاطاته على واقعنا المعاصر.
|
|
العرض الأول: دهشة البداية وصدمة الحداثة |
في عام 1953، عُرضت المسرحية لأول مرة في باريس باللغة الفرنسية، من إخراج روجيه بلين، وقد شكّل العرض لحظة فارقة في تاريخ المسرح الأوروبي. كان الجمهور أمام نص غريب في كل شيء: لا حبكة واضحة، لا تصعيد درامي، لا نهاية حاسمة. وبالرغم من ذلك، لم يكن ذلك نقصًا بل مقصودًا. المسرحية قدّمت مفهومًا جديدًا لفن العرض، يتجاوز التسلسل المنطقي والدرامي المعتاد. الناقد الفرنسي جان أنويه كتب ساخرًا: "إنه نص لا يحدث فيه شيء، مرتين". هذا التكرار ليس فراغًا، بل وسيلة فنية لإبراز فراغ الحياة نفسها. لقد انقسم الجمهور وقتها، ما بين من غادر القاعة غاضبًا، ومن وصف المسرحية بأنها أعظم عمل عبثي بعد الحرب العالمية الثانية. وهذا الانقسام بحد ذاته دليل على حجم الصدمة التي أحدثتها. |
بنية متمردة: تفكيك المسرح الكلاسيكي |
كسرت في انتظار جودو قواعد المسرح الأرسطي التي تنص على وجود بداية وذروة وانفراج. لا وجود لعقدة، أو ذروة تقود إلى حل. بل إن الحبكة تكاد تكون غائبة تمامًا. شخصيتا المسرحية، فلاديمير وإستراغون، لا تفعلان شيئًا سوى الانتظار تحت شجرة، في مشهد ثابت يتكرر بين الفعل واللافعل، بين النية والمراوحة. هذا الانتظار الطويل لجودو، الذي لا يأتي أبدًا، يتحول إلى استعارة كبرى للزمن الساكن، والوجود المعلق، والإنسان العاجز. بكيت لم يكتب مسرحية لتُروى، بل ليُعاش صمتها، مللها، وضجرها، كما لو أن المشاهد يعيش تجربة العبث مع الشخصيتين لا يشاهدها فقط. |
العبث والإنسان: حين يغيب المعنى وتستمر الحياة |
العبث، كما تطرحه المسرحية، ليس مجرد غياب حدث، بل غياب مبرر للوجود. الإنسان في هذه المسرحية ليس فقط ضائعًا، بل عالقًا في تكرار لا يفضي إلى نتيجة. إنه ينتظر الغائب، أيًّا كان معناه: الحقيقة، العدالة، الأمل، المستقبل، لكنه لا يأتي. هذا الانتظار يتحول إلى جوهر التجربة البشرية، كما أشار ألبير كامو في كتابه أسطورة سيزيف، حين ربط بين وعي الإنسان بالعبث، واستمراره في العيش رغم إدراكه بعدم وجود جدوى. وهكذا، لا يكون العبث استسلامًا، بل وعيًا مؤلمًا ومستمرًا، تمامًا كما في مشاهد المسرحية التي تدور دون أي تطوّر. |
![]() |
إرث فكري عابر للزمن: أثر جودو على الأدب الحديث |
تُعد "في انتظار جودو" عمودًا أساسيًا في بناء ما يُعرف بـ"مسرح العبث"، وقد أثرت بعمق على كتاب مثل هارولد بينتر، توم ستوبارد، إدوارد ألبي، وجون أوزبورن، الذين تأثروا بجرأة بكيت في تجاوز الشكل المسرحي التقليدي. يرى مارتن إسلن في كتابه مسرح العبث أن هذه الأعمال تُجسد فقدان المعنى في العالم الحديث، لا كفكرة ميتافيزيقية، بل كواقع اجتماعي وثقافي بعد الحرب. لقد باتت المسرحيات تسائل وجود الإنسان في عالم باتت فيه اللغة مُستنزفة، والعلاقات الإنسانية مُبتذلة، والزمن لا يُقاس بالتقدّم، بل بالتكرار والدوام. |
الإنسان ما بعد الحداثة: انتظار جديد في عبث متجدّد |
ما يجعل من هذه المسرحية خالدة هي قابليتها للتأويل في كل عصر. في زمننا الرقمي اليوم، يمكن القول إن انتظار جودو أصبح أكثر كثافة، وأكثر إيلامًا. فالتصفح اللاواعي لساعات، والركض وراء أهداف استهلاكية، والعمل بوصفه وسيلة للبقاء لا للإنجاز، كلها أشكال من الانتظار الحديث. نحن ننتظر رسائل لا تصل، نجاحات لا تتحقق، خلاصًا شخصيًا أو جماعيًا لا يلوح. في ظل رأسـمالية متوحشة، واستقطاب اجتماعي شديد، يبدو الإنسان أكثر وحدة من أي وقت مضى. العبثية لم تعد نظرية، بل أصبحت نمط حياة يومي، حيث نعيش في دائرة لا نعرف بدايتها من نهايتها، ونتمسك بوهم أن شيئًا سيتغير، بينما لا شيء يتغير. |
جودو الذي لا يأتي... لكنه يُبقينا أحياء |
ختامًا، "في انتظار جودو" لا تُقدم حلاً، لكنها تضعنا أمام واقع مأزوم، وتجبرنا على طرح أسئلة قد لا نملك لها أجوبة. إنها تخلخل يقيننا بالمعنى، لكنها تضيء بأدبها وفكرها درب التأمل. لقد استطاع بكيت أن يعبر عن الإنسان ككائن يتأرجح بين الأمل واللاجدوى، بين الانتظار والضياع، دون أن يقع في المباشرة أو الخطابية. هذه المسرحية لا تزال تلامس أعصاب الإنسان المعاصر، لأنها تكشف هشاشته، وتُعري انتظاراته، وتُخبره ضمنيًا أن جودو، هذا الغائب الكبير، قد لا يأتي أبدًا. لكن رغم ذلك، فإن جوهر الإنسان يكمن في استمراره في الانتظار، حتى ولو كان عبثيًا. |
التعليقات