شـامـل | من لا يجلد ذاته، سيجلده الزمن | العدد #24

15 يوليو 2025 بواسطة أحـمـد الحـجـيلـي #العدد 24 عرض في المتصفح
في الآونة الأخيرة، انتشرت الكثير من النصائح التي تدعو إلى نبذ جلد الذات، والدعوة إلى ما يُوصف بالرفق والعطف مع النفس، حتى بات جلد الذات يُصوَّر على أنه شرٌّ مطلق، أو جريمة أخلاقية بحق الذات البشرية. هذا التوجّه يتبناه غالبًا من يستلهم مفاهيم ما بعد الحداثة؛ مفاهيم تصوغ نوعًا من "العصمة الخفية" للذات، فتُفرغ المسؤولية من معناها الجاد، وتحوّل الخطأ إلى حالة قابلة للتبرير، لا إلى خلل يستدعي الحساب والتصحيح. حتى من لا يتبنّى هذه العصمة الكاملة، تجده ميّالًا إلى تسوية الأخطاء بهدوء، دون تحميل النفس عبءَ الذنب، وكأن الشعور بالذنب نفسه صار مرفوضًا. لكن ما هو جلد الذات فعلًا؟ وهل من العدل تصويره كشرّ خالص؟ ألا يحمل في طياته قيمة أخلاقية إذا وُضع في موضعه الصحيح؟ هل يجب أن تكون محاسبة النفس دائمًا مريحة وخفيفة؟ أم أن الألم في بعض الأحيان ضرورة وجودية، لا بوصفه عذابًا، بل بصفته أداة لتحوّل عميق وصادق في السلوك والوعي؟

الرفاهية الحديثة... والهروب من دفع الفاتورة

حين نتأمل هذا النفور من جلد الذات، لا يسعنا إلا أن نستحضر التربية الحديثة للأطفال، تلك التي تنحو إلى تجنيب الطفل أي شعور بالردع، أو أي تجربة فيها وخز أو قصاص. كلا التوجّهين – رفض جلد الذات، والتربية اللينة – يلتقيان عند نقطة واحدة: الهروب من دفع الفاتورة. الإنسان المعاصر، في ظل هذه الثقافة، يريد أن يتغير دون أن يُحاسب، يريد أن ينضج دون المرور بتجربة مؤلمة، ويريد أن يبلغ الكمال النفسي دون محاسبة جادة ومؤلمة أحيانًا. لكن هذا ليس فقط وهمًا، بل خطر وجودي على وعي الإنسان. حين لا يدفع الفرد ثمن خطئه، أو حين يُطلب منه فقط "أن يتفهم نفسه" دون أن يراجعها بصرامة، تتحول الذات إلى كيان منفصل عن القانون، وعن فكرة العاقبة، وهو ما يُهدد أي إمكانية حقيقية للإصلاح.

جلد الذات كعملية تهذيب لا إهانة

جلد الذات، حين يكون نابعًا من وعي ومسؤولية، ليس عدوانًا على النفس، بل هو امتداد عميق لمحاسبتها. هو المرحلة التي تنزع فيها الذات عن نفسها وهم العصمة، وتُجبرها على مواجهة نتائج أفعالها بصدق. لا يأتي الجلد قبل المراجعة، بل يتبعها كأداة تقويم وردع، ويفتح الطريق نحو التغيير الفعلي، لا المجازي. هذا النوع من الجلد ليس تعذيبًا للذات، ولا إهانة لها، بل احترام لها. لأنه يُعامل الخطأ بجدّية، ويؤمن أن الخطأ غير المراجع، سيُعاد لا محالة، وربما بثمن أعلى. الإنسان الذي لا يجلد نفسه حين يخطئ، هو كمن ينتظر أن يجلده الواقع لاحقًا، ولكن بثمن مضاعف.

التربية الحديثة: التساهل الذي يصنع العجز

في هذا السياق، يمكننا العودة مرة أخرى إلى التربية الحديثة، التي أصبحت ترفض حتى أبسط أشكال الردع. كثير من الآباء والأمهات اليوم يسعون لتقويم سلوك أبنائهم دون استخدام مفهوم "العاقبة" بأي صورة كانت. بدافع الرفق، يسعون لتربية فاضلة، لكنهم يزرعون فكرة خطرة: أن الأفعال لا تترتب عليها نتائج. وما تفعله التربية الحديثة مع الطفل، تفعله الثقافة الحديثة مع الفرد البالغ. كلاهما يرفع شعار التساهل، وكلاهما يغيب عنه القانون الداخلي الذي يضبط التوازن بين الحرية والمسؤولية. في الحالتين، يغيب مفهوم الثمن، ويحل محله تبرير دائم لا يُنتج سوى التكرار.

تمثال الميرليون وفندق مارينا باي ساندز - سنغافورة

تمثال الميرليون وفندق مارينا باي ساندز - سنغافورة

الأمم التي لا تراجع نفسها تموت واقفة

جلد الذات ليس مجرد فعل فردي؛ بل هو أساس كل عملية تهذيب جماعية. الأمة التي لا تراجع نفسها، ولا تحاسب أخطاءها، تبقى حبيسة التبرير والتزييف. وإذا طالت هذه الحالة، تتحول إلى أمة عمياء عن مآلات أفعالها، حتى تستيقظ على نهايات مؤلمة. وحين تُستدعى الشعارات لتغطية الإخفاق، وحين تُخدّر الجماهير عن رؤية مكامن الفشل، فإن تلك الأمة لا تسير نحو النهضة، بل نحو المقصلة. ليس بفعل أعدائها، بل بفعل إنكارها الداخلي. لأن من يُزيّف أخطاءه، لا يملك رفاهية إصلاحها.

سنغافورة مثالًا: من جلد الذات إلى نهضة وطنية

ولعلّ أوضح الأمثلة على فاعلية جلد الذات الواعي ما حدث في سنغافورة. تلك الدولة لم تنتظر أن تبرر لنفسها إخفاقاتها، بل خاضت مراجعة وطنية صارمة، جلَدت فيها ذاتها عبر حزمة من السياسات الحازمة: مكافحة جذرية للفساد، انضباط مدني، قوانين صارمة، وإصلاحات اقتصادية ممنهجة. دفعت ثمنًا باكرًا، لكنها جنَت نتائج بعيدة المدى، وجعلت من تجربتها نموذجًا يُستشهد به في العالم بأسره. سنغافورة لم تتبنّ خطاب "التفهم العاطفي" أو "المصالحة الداخلية" فقط، بل واجهت نفسها، بما يكفي من الصدق لتنتقل من خانة الدولة المتعثرة إلى دولة الازدهار والانضباط.

من لا يجلد ذاته، سيجلده الزمن

في الختام، يظهر لنا أن جلد الذات ليس فعلًا ناتجًا عن قسوة أو قهر، بل هو استجابة داخلية صادقة تدفع الإنسان إلى مواجهة نفسه بدلًا من الهروب منها. هو وقفة أخلاقية شجاعة في وجه التبرير، وانحياز صارم للحقيقة، حتى لو كانت موجعة. فجلد الذات ليس عدوانًا على النفس، بل هو طهارة مؤلمة تمنع تراكم الخطايا والسقوط في التكرار. حين لا نجلد ذواتنا، نُسلمها إلى التبلد. وحين نتساهل مع أخطائنا، نُهيئ لها بيئة مثالية لإعادة إنتاج نفسها. نحن لا نتحدث عن جلد مرضي أو احتقار للذات، بل عن ذلك الجلد الذي يأتي بعد تأمل، ويقود إلى إصلاح، ويضمن أن التجربة لم تمر عبثًا. إن الأمم التي تعيش في حالة إنكار دائم، والتي تصرّ على تصدير صورة ناصعة خالية من العيوب، هي أمم في حالة خدر جماعي، لا تواجه فشلها ولا تنوي تغييره. أما الفرد، فإن لم يمتلك شجاعة جلد الذات، فلن يتغير، وسيفقد القدرة على التعلم والنمو، لأنه اختار راحة مؤقتة على حساب إصلاح دائم. نعم، قد يكون جلد الذات مؤلمًا، لكنه ألم يشبه التطهير. إنه يعيد للنفس توازنها، ويمنحها فرصة حقيقية لبداية جديدة. فلكل خطأ ثمن، ولكل تقاعس عاقبة، ومن لا يجلد ذاته اليوم بوعي، سيجلده الزمن لاحقًا بلا رحمة.

مشاركة
شـامـل

شـامـل

«شـامـل» | نشرة بريدية أسبوعية 📩 تُكتب من صُلب أفكار أحمد الحجيلي، ولأن كل فكرة تستحق أن تُروى كاملة، فـ «شـامـل» نشرة شاملة. «شـامـل» ليست مجرد نشرة، بل رحلة فكرية تأخذ قرّاءها إلى زوايا الأدب، والفكر، والثقافة، والتأملات النقدية، وحتى التساؤلات العابرة التي قد تقود إلى رؤى جديدة. لا تتبع خطًا واحدًا، ولا تلتزم بقالب جامد، بل تنمو مع كل عدد، تمامًا كما تنمو الأفكار في العقول، والأزهار في الحقول. في «شـامـل» لا أعدك بموضوعات تُقرأ وحسب، بل بمحتوى يحفّز عقلك، ويثير فضولك، ويفتح أمامك نوافذ جديدة على العالم. 📌 سوف تجد في «شـامـل» ☘ مقالات متنوعة تتناول كل ما يستحق القراءة والتأمل. ☘ تحليلات نقدية تُعيد النظر في الأفكار السائدة. ☘ مساحة مفتوحة لاكتشاف الجديد والمختلف. ☘ محتوى بلا قيود، كالفكرة التي تلهمنا دائمًا. في «شـامـل» الفكرة ليست النهاية، بل البداية لحوار جديد. — اشترك الآن، ودع الأفكار تأخذك في رحلة بين شِعاب عقل الكاتب، إلى أماكن لم تخطر ببالك!

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من شـامـل