شـامـل | عندما تشعل الخِيـرة شموع الحِيـرة | العدد #22 |
1 يوليو 2025 • بواسطة أحـمـد الحـجـيلـي • #العدد 22 • عرض في المتصفح |
من أصعب ما يواجهه الإنسان أحيانًا هو أن يُخيَّر بين خيارين متقاربين، فلا يدري أيهما أولى بالاختيار. يقف في دوامة فكرية قد تمتد لأيام أو شهور، وربما سنوات، بحسب أهمية القرار في حياته. يبدأ في الغوص داخل أعماق نفسه بحثًا عن مبرر نفسي يميل به إلى أحد الاتجاهين، فتتوالى عليه الأسئلة، وتتزاحم عليه الاحتمالات.بعض القرارات بالفعل تستحق التريث والتفكير العميق، لكن الإشكال يبدأ حين تتحول كل القرارات — مهما كانت — إلى حالة من الحيرة الثنائية، سواء أكان لها بديل حقيقي، أم كانت مجرد ثنائية مفتعلة بسبب قيود زمنية أو مالية أو نفسية. عندها يصبح الإنسان ضحية لهذا النمط من التفكير، الذي وإن كان أحيانًا محفزًا للنضج، قد يجر وراءه صفات سلبية تعرقل المسير.
|
|
صوت الندم المؤجل: حين نخاف من الخطأ أكثر من الفشل |
أن تجد نفسك في حيرة بين خيارين، ليس مجرد قلق عابر، بل هو في الغالب انعكاس لصوت داخلي يقول: "لا طاقة لي بندمٍ قد يأتيني لو اخترت هذا وضيّعت ذاك". هذا الصوت لا يأتي من فراغ، بل من تراكم التجارب التي مر بها الإنسان — تجارب حفرت في ذاكرته آثارًا، وشكّلت لديه حساسية مفرطة تجاه الخطأ. فيغدو أسيرًا لتجاربه، يحاكم كل قرار على ضوء ما مضى، يخاف من التكرار، ويخشى السقوط مرة أخرى. |
وقد لا تقتصر الحيرة على الاختيار بين خيارين، بل تمتد أحيانًا إلى التردد بين التغيير والثبات، بين المغامرة والبقاء، بين الرجاء والخوف من المجهول. وهنا، تتحول الحيرة من حالة عقلية إلى عبء نفسي ثقيل، يغذيها هوس بالمثالية، وتضخيم لنتائج المستقبل. |
هل التفكير سبب النجاح أم بوابة الفشل؟ |
علينا أن نعترف بحقيقة بسيطة: كل قرار — خاصة المصيري منه — له احتمال النجاح والفشل. التفكير والتحليل والتخطيط أدوات ضرورية، بل وأساسية، لكنها ليست ضمانًا للنتيجة. |
قد يبدو غريبًا أن يكون التفكير من أسباب النجاح، وهو في ذات الوقت أحد مداخل الفشل. لكن المسألة تتعلق بدرجة الاستخدام: التفكير المعتدل يفتح البصيرة، أما الإفراط فيه فقد يحبس الإنسان داخل دائرة لا تنتهي من التردد والخوف. كأن يُغرق نفسه في الحسابات، ويتوهم أنه اتخذ القرار الصحيح، بينما الحقيقة أنه كان رهينة للقلق لا العقل. |
الخطأ الحقيقي ليس في النتيجة — فكل قرار قابل للتقويم — بل في أن نُخدع ونظن أننا قررنا بناءً على حكمة، بينما كنا نركض خلف هواجس متخفية في ثوب "التحليل العقلاني". |
![]() |
الحيرة بين أن تكون حكمة أو أن تكون غطاء؟ |
الحكمة والتأني صفات نبيلة، لا شك. من يتحلّى بهما يُحسب له رجاحة العقل، ووزن الكلام، وحسن التدبير. لكن الحيرة حين تتحول إلى عادة، وتتكرر مع كل صغيرة وكبيرة، فإنها تتحول إلى نوع من القلق النفسي المرهق. يصبح الإنسان مشلولًا، لا يقوى على اتخاذ قرار، ولا يستطيع التراجع عنه. |
الحكيم لا يُهلك نفسه في كل شاردة وواردة. هو يعلم أن التقدير بيد الله، وأن جهده لا يعني بالضرورة تحقق ما يريد. فإن جاءته النتيجة كما تمنى، حمد، وإن خالفته، رضي. |
الخاتمة: حين تشتعل شموع التفكير وتحرق البيت |
نعم، من مزايا الحيرة أنها توقظ فينا أدوات التفكير والبحث والمقارنة. لكنها أدوات وُجدت لتُستخدم بوعي وحدود. تركها مشتعلة دون ضبط، قد يؤدي إلى اشتعالها في غير موضعها، كشمعة سقطت على أثاث البيت فأحرقته. |
حين نغرق في التفكير إلى الحد الذي نستهلك فيه أنفسنا وأعصابنا، فإننا لا نكسب وضوحًا، بل نخسر فرصًا وتجارب ربما كانت لتغيّر مجرى حياتنا. كثير من الهواجس التي تتردد في أذهاننا ليست سوى أوهام، تغلفها مخاوف سابقة ومثالية زائدة، وقد لا نكتشف عبثها إلا حين نختبر الواقع. |
التعليقات