شـامـل | التاريخ لا ينتظر حتى نلتئم: لنكتبه قبل أن يكتبه عنا خصومنا | العدد #21 |
24 يونيو 2025 • بواسطة أحـمـد الحـجـيلـي • #العدد 21 • عرض في المتصفح |
لا يغيب عن ذهن أي عاقل مطّلع على أحوال الأمم ومساراتها، أهمية التاريخ كعلم شامل يمنحنا صورة متكاملة عن الشعوب وأحداثها. فتوثيق التاريخ ضرورة لحماية الحقيقة من التشويه والتزييف. ومن المعروف أن المنتصر غالبًا هو من يكتب التاريخ، بما يملكه من أدوات تفوق وقدرة على فرض روايته، بينما يُقصى المغلوب وتُطمس معاناته.لقد مجِّدت كثير من الإمبراطوريات، ونُسجت حولها القصائد والحكايات، بسبب ما سُوِّق لها من قوة وسطوة. لكن خلف هذه الروايات تختفي انتهاكات ومآسٍ لا تُحصى. فالتاريخ، في جوهره، هو الذاكرة التي تُروى كما حدثت، دون زيادة أو نقصان، والغاية أن تظهر الحقيقة كما هي، ليصدر الناس أحكامهم، ويفسّروا الوقائع بأنفسهم.المشكلة الحقيقية ليست في نقص المعلومات، بل في تزوير النص التاريخي، أو تبرير ما لا يُبرَّر. واليوم، نعيش في العالم العربي واحدة من أكثر الفترات تعقيدًا، حيث تُحرَّف الرواية قبل أن تُوثَّق، ويُزوَّر الخبر قبل أن يُنقَّح، ولنا في سوريا مثالٌ صارخ؛ بلدٌ أُنهك أربعة عشر عامًا، فشُوِّه أهلها، وقُتِلوا، واتُّهِموا بالعمالة، بينما سُمِّي العميلُ المفرِّط “حمامة سوريا” التي إن طارت، طارت معها البلاد بلا رجعة.
|
|
من يملك حق الرواية؟ |
خُونّا كأمة على مدى أربعة عشر عامًا، لأن معيار الخيانة أصبح مجرد مخالفة أيديولوجية تلك الدولة التي "تنسج السجاد". فكل من اختار طريقًا مختلفًا، أو سعى لحل متزن يوازن بين الحوار والمنطق، وُصِم بالخيانة. خُنّا، لأن هناك من أراد أن يفصلنا عن واقعنا، ويوهمنا بأننا على خطأ دائم. |
زُوِّر ماضينا، كما زُوِّر تاريخنا. فرغم أن بعض الأخطاء حصلت قبل أكثر من ألف عام، أُلصِقت بنا أكاذيب، ورُكِّبت علينا حكايات لا علاقة لنا بها. ولكن لأننا غبنا عن ساحة الدفاع عن أنفسنا، أصبحت حججنا اليوم ضعيفة، وعاجزة عن دحض تلك الروايات. |
فالتاريخ لم ينتظرنا حينها، ولن ينتظرنا الآن حتى "نلتئم". علينا أن ندوِّن تاريخنا، بكل ما فيه من صواب وخطأ، بشفافية وموضوعية، دون تزييف أو تبرير. يجب أن نكتب الحدث كما وقع، ونوضح المسألة كما هي، ونتقبل التقييم الصريح من أحفادنا بعد قرن من الآن. لا نحتاج إلى انتظار اللحظة المثالية، بل أن نبدأ فورًا، وبكل شجاعة. |
الشهادة التاريخية حقٌّ لا يُنتزع |
علينا أن نُدرِك تمامًا أن الشهادة التاريخية ليست ملكًا لنا، بل حقٌ لأجيالنا القادمة. لا يجوز لنا أن نمنعها عنهم، أو نحرِّفها لتغطية حدث أو تشويه مفصل. الحقيقة، إن تم التلاعب بها، ستفضحنا يومًا ما، لأن الزيف لا يصمد. |
ولنتذكّر بغداد حين اجتاحها التتار، والصراعات الدامية التي اندلعت في صدر الدولة الأموية. كثيرون يعتبرونها صفحات مُهينة في تاريخنا، لكنها اليوم أصبحت حالات تاريخية طبيعية لها ظروفها وسياقاتها، ونحترمها لأنها كُتبت بصراحة، ولم تُخفَ. ولذلك رضينا عنها رغم قسوتها، لأننا لم نزوِّرها. |
سوريا… رواية مغتصبة تنتظر أصحابها |
من أخطر ما نرتكبه اليوم هو استسهال التعاطي مع التاريخ، وكأنه مجرد حكايات. لكن الحقيقة أن التاريخ شهادة مستقبلية، ستصدر حكمًا على أمة كاملة. |
انظر إلى المشهد السوري: إعلام الخصوم يروِّج يوميًا لفكرة أن نضال السوريين ما هو إلا أداة للإمبريالية، ويُصوَّر شعبٌ كامل، بمذاهبه وثقافاته، على أنه عميل. البعض يظن أن التاريخ سينصفهم لاحقًا، لكن هذا وهم؛ فلن يفعل ما لم يكتبوا هم بأنفسهم روايتهم ويوثقوا شهاداتهم، ويذكروا كل من تآمر عليهم، وكل من خذلهم. |
لا بد أن تُكتب الروايات وتُطبع، لتكون مرجعًا صادقًا، حتى في أحلك اللحظات. لا ضير أن نذكر فترة الاقتتال بين الفصائل، بكل تفاصيلها، فهذه الرواية يجب أن تكون نزيهة، حتى لو كانت قاسية. سوريا اليوم تكشف الزيف، وتفضح المتاجرين بقضاياها. والتاريخ لن ينصفها إلا إذا أنصفت هي نفسها أولًا. |
![]() |
اكتبوا الحقيقة بلا خوف |
في الختام، ستدور عجلة التاريخ عاجلًا أو آجلًا، حاملة ما قبلها من آلام ومآسي. والتاريخ، في جوهره، محاولة لفهم الحاضر واستيعاب المستقبل. لنا في تاريخنا ما نفخر به، كما فيه ما نخجل منه، وليس المطلوب تبرئة أنفسنا، بل أن نكون صادقين. |
التاريخ ليس مقدسًا، بل حالة إنسانية يجب توثيقها كما هي. لا يليق بنا تزييفه أو تلميعه أو تبريره، لأننا بذلك نخسر مرتين: أخلاقيًا ونفعيًا. وحدها الكتابة الصادقة، المجردة من العاطفة، هي التي ستمنح أحفادنا فهمًا حقيقيًا لواقعنا. |
حتى أولئك الذين حوصروا في إدلب، راجعوا أنفسهم ودوّنوا أخطاءهم، رغم قصر المدة. تلك المراجعة كانت دليل نضج. لذا، لا مجال للتأخير؛ التوثيق يجب أن يبدأ الآن، ويُحفَظ، ليكون شاهدًا على بطولاتنا، ومصححًا لإخفاقاتنا. |
التعليقات