شـامـل | العندليب الشهيد: الساروت في ذكرى استشهاده السادسة | العدد #19

10 يونيو 2025 بواسطة أحـمـد الحـجـيلـي #العدد 19 عرض في المتصفح
قد تكون عملية بناء الرمزية الشخصية والكاريزما واحدة من أصعب المهام التي تعجز كثير من وسائل الإعلام عن تحقيقها. فالرمزية عملية ذاتية البناء، لا يمكن لأي وسيلة أن تفرضها على شخصية ما، ما لم تكن نابعة من جوهره الداخلي. فالشخصية الرمزية، سواءً كانت بطابع إيجابي أو سلبي، تشبه "الجرس" الذي يُقرع في أذهان الناس كلما سمعوا بها أو شاهدوها.ولهذا، مهما حاولت وسائل الإعلام تلميع شخصية ما، فإنها غالبًا ما تفشل وتسقط، كما أسلفنا. وعلى النقيض، حتى لو حاولت تلك الوسائل طمس كاريزما شخصية معينة، وتشويهها أخلاقيًا أو إنسانيًا، أو حتى تقديمها في صورة مخلة – وإن كان ما يُقال عنها صحيحًا – فإن الشخصية الرمزية تستطيع، بقدرة عجيبة، أن تخترق هذا التزييف وتخلق شعبية خارجة عن السيطرة. والأمثلة على ذلك كثيرة.لكن في هذه المقالة سنناقش رمزية الساروت في سياق الثورة السورية، وكيف استطاع أن يكسر ماكينة إعلام النظام البائد الرخيص، ويصنع رمزية طاغية نسفت كل ادعاءاته وافتراءاته، طوال حياة الشهيد الساروت – رحمه الله.

أهازيج الساروت وقيادته للجماهير

استطاع الشاب، حارس كرة القدم، أن يخلق حالة استثنائية في سياق الثورة السورية عام 2011، أربكت أركان نظام الأسد الكرتوني، الذي جن جنونه في ملاحقة الساروت ومحاولة القبض عليه، بعد مشاركته الفاعلة جدًا في إشعال بركان الغضب الجماهيري.

فعلى الرغم من أن بدايته كانت سلمية من خلال إلقاء بعض الأهازيج المنتظمة شعريًا بأسلوبه البدوي الجميل، فإن لتلك الانتفاضة مبرراتها القوية. في الواقع، إن تفاعل الجماهير مع أهازيجه شكّل حالة من النشوة شبه الغيبوبة، التي سكنت النفوس حينها. فأنشودة "جنة جنة" تُعد واحدة من أبرز الأناشيد التي ساهمت في ترسيخ رمزية الساروت داخل وجدان الشعب السوري.

وعلى الرغم من محاولات النظام تنميط الساروت ضمن جهة معينة، إلا أنه استطاع، من خلال ظهوره مع الفنانة الراحلة فدوى سليمان – من الطائفة العلوية – أن يُغذي هذه الرمزية على نطاق وطني عابر للطوائف، لا يقتصر على الطائفة السنية. وبالعودة إلى أنشودته الملحمية التي غنّاها لسوريا من الحسكة شرقًا إلى جبال الساحل غربًا، نجد أن الأهازيج وقيادته للجماهير الثائرة ساهمت بشكل جوهري في ترسيخ رمزيته داخل الوعي الجمعي السوري.

الساروت.. المنشد المقاتل

مع تحوّل الثورة إلى العسكرة، نتيجة الهمجية البربرية التي انتهجها النظام المخلوع، تعاظمت رمزية الساروت، إذ بات رمزًا لكثير من الشباب السوري؛ من منشدٍ يلهب الجماهير إلى مقاتل يخوض المعارك محققًا الانتصارات مع رفاقه.

هذا التحوّل أظهر عدة أبعاد في شخصية الساروت. أولًا: بُعده النضالي، إذ ظل متأقلمًا مع كل متغير في سبيل هدفه النبيل، وهو تحرير البلاد من الظلم. ثانيًا: بُعده الإنساني، فقد كان يساعد المحتاجين في المناطق المحررة بداية الثورة، وسعى جاهدًا لفك الحصار عن حمص.

كل هذه الجوانب عززت رمزية الساروت؛ من منشد للثورة إلى مقاتل يقدّم روحه فداءً للوطن. وهذا إن دلّ على شيء، فإنما يدل على صدق قوله: "كل حياتي صارت في سبيل هذه الثورة". لقد اعتنق الساروت إيمانًا راسخًا بأن "ما لها حل إلا النصر"، وها هي كلماته تظل خالدة، بعدما انكشفت زيف خصوم الثورة، وتكسّرت رهاناتهم.

سوريين يرفعون صورة الشهيد عبد الباسط الساروت

سوريين يرفعون صورة الشهيد عبد الباسط الساروت

أهمية الحفاظ على رمزية الساروت

خلال مشاركته في معركة شمال حماة بين فصائل المعارضة المسلحة وقوات النظام البائد، استُشهد الساروت. وكان استشهاده انتكاسة معنوية كبيرة لدى كثير من أبناء الشعب السوري، خاصةً المقاتلين.

فاستشهاده جاء في لحظة شعر فيها الكثيرون بأن النظام ربح معركته ضد الشعب – مستعينًا بالمليشيات الأجنبية، ومفجّرًا البراميل، ومستخدمًا الكيماوي – ليبدو وكأن استشهاد الساروت هو رمزٌ لانطفاء شعلة الثورة.

وقد أنتج "تلفزيون سوريا" أغنية رثائية بصوت الفنان عبد الحكيم قطيفان بعنوان "لو ترجع"، والتي أصبحت رمزًا لفقدان أحد أعمدة الثورة، بل بداية النهاية لعصرها الذهبي. وعلى الرغم من أنها كُتبت للساروت، فإنها عكست حالة من الإحباط خيّمت على أدبيات الثورة آنذاك. حتى الساروت نفسه، قبيل استشهاده، أنشد بكلمات تعبّر عن مزيج من الأمل واليأس.

لقد ساهمت أغنية "لو ترجع" في ترسيخ هوية الساروت ورمزيته داخل وجدان الثورة. ولكن للحفاظ على هذه الرمزية، لا بد أن تعمل سوريا المستقبل على تخليد رموزها وتعريف الأجيال القادمة بها. ويجب أن يكون ذلك بتعاون بين وزارتي التعليم والثقافة، من خلال بناء سردية بطولية تخلّد الساروت، فمثل هذه الرموز لا تتكرر كل يوم، والخلود لا يُصنع بالشعارات والثرثرات، بل بالفعل، والساروت خُلق ليكون رمزًا خالدًا إلى الأبد.

قصيدة مهداة إلى الساروت

في الختام، لا ختام إلا ببضع أبيات بدوية كتبتها من عمق قلبي، مهداة إلى الشهيد الساروت الذي بات رمزًا خالدًا في تاريخ سوريا، في زمن امتلأ برموز لا تليق إلا بمزابل التاريخ، وقعر الجحيم.

يا صوت خذ من لساني تحية عـــزّ وســــلام

لساروت حمص، حفيد خالـد اللي تغنّى

ست سنين والشهيد حلمـــــه حيّ ما ينـــام

يريد بنت الوليد، الخالدة حرّة ومستكنّة

يا لله طلبتكــــ وكلي رجاء أن تسقـي الشـام

بعد سنين من حُكم ظُلّام بعقولهم رنـّة

واليوم نص العام من يوم طار أسد الأيتـام

يوم يصادف التحرير، ولا منِّ يحمّله منّة

لكـــ من الله علو الفردوس وطيب الالتحـام

مع النبي وأصحابه وخيرة مسلمين السنّة

مشاركة
شـامـل

شـامـل

«شـامـل» | نشرة بريدية أسبوعية 📩 تُكتب من صُلب أفكار أحمد الحجيلي، ولأن كل فكرة تستحق أن تُروى كاملة، فـ «شـامـل» نشرة شاملة. «شـامـل» ليست مجرد نشرة، بل رحلة فكرية تأخذ قرّاءها إلى زوايا الأدب، والفكر، والثقافة، والتأملات النقدية، وحتى التساؤلات العابرة التي قد تقود إلى رؤى جديدة. لا تتبع خطًا واحدًا، ولا تلتزم بقالب جامد، بل تنمو مع كل عدد، تمامًا كما تنمو الأفكار في العقول، والأزهار في الحقول. في «شـامـل» لا أعدك بموضوعات تُقرأ وحسب، بل بمحتوى يحفّز عقلك، ويثير فضولك، ويفتح أمامك نوافذ جديدة على العالم. 📌 سوف تجد في «شـامـل» ☘ مقالات متنوعة تتناول كل ما يستحق القراءة والتأمل. ☘ تحليلات نقدية تُعيد النظر في الأفكار السائدة. ☘ مساحة مفتوحة لاكتشاف الجديد والمختلف. ☘ محتوى بلا قيود، كالفكرة التي تلهمنا دائمًا. في «شـامـل» الفكرة ليست النهاية، بل البداية لحوار جديد. — اشترك الآن، ودع الأفكار تأخذك في رحلة بين شِعاب عقل الكاتب، إلى أماكن لم تخطر ببالك!

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من شـامـل