شـامـل | التعليم: بين حفظ الوِصال وحداثة الانفصال | العدد #17 |
27 مايو 2025 • بواسطة أحـمـد الحـجـيلـي • #العدد 17 • عرض في المتصفح |
واحدة من أكثر الطرق التي تميزت فيها طريقتنا العربية في التعليم العتيق، هي إلزام الموجِّه أو شيخ الحلقة لطالب العلم بحفظ عدد من المتون، بدءًا من علوم الآلة التي تُعدّ مدخلًا أساسيًّا لفهم العلوم الشرعية (كالعقيدة والفقه والتفسير والحديث). فهذه العلوم (أي الآلة) لا تُطلب لذاتها، بل لفهم هذه العلوم الشرعية لاحقًا، وتنقسم علوم الآلة إلى قسمين: أحدهما مختص باللغة العربية كـ(النحو، الصرف، البيان، البلاغة، العروض)، ويدرس لأهميته الشديدة في تمكين الطالب من الغوص في العلوم الشرعية مستقبلًا بلسان قويم وعقل سليم. وقسم آخر من العلوم الإنسانية يُعد مظلة ثقافية تُصقل الطالب ضمن السياق الذي دارت فيه هذه العلوم الشرعية، كـ(الأدب، الشعر، المنطق، التاريخ، الأنساب، التراجم وغيرها). والهدف من هذه العلوم هو تمكين طالب العلم في ذلك العصر من الإلمام الكامل بالسياق الحضاري والثقافي الذي نشأت فيه العلوم الشرعية، كما أنها تمثّل ترويحًا يخدم الدراسة ويثريها. فعندما يدرس طالب العلم سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – يفهم كيف نشأ علم الحديث، حيث حديثه – عليه السلام – هو نتاج سيرته العطرة، مما يمنحنا وعيًا بظروف الحديث وسياقه. وينطبق هذا على سائر العلوم الشرعية. كذلك، علم التراجم يكشف عن الجهود التي بذلها علماء الأمة في سبيل خدمة الدين، كما يتجلى في سيرة الإمام البخاري – رحمه الله – عند تدوين صحيحه. ومن علم التاريخ يُستشف فهم الواقع الحضاري والسياسي في زمن تشكُّل العلوم. ومن هنا، يتبيَّن أن علوم الآلة ليست هامشية، بل هي لبنة تأسيس لكل طالب علم نابه بصير، يؤهله ذلك لولوج هذه الرحلة العلمية العظيمة. ومن هنا نعود إلى جوهر المقال: دور الحفظ الذي اعتمده علماؤنا الأوائل كطريقة راسخة، تقارن حاضرًا لا يشابه عُشر أصالة وعمق مخرجات ذاك الزمان.
|
|
الفطرة العربية ومنهج الحفظ |
السر الذي جعلنا في وضع تعليمي أدنى من حيث جودة المخرجات مقارنةً بما تركه لنا الأسلاف، يكمن في عدة أطر، أهمها ربما هو الاستيراد، استيراد الطريقة من ثقافات لا تشابه طريقتنا العربية التي يسير بها عقلنا. فأسلافنا بنوا نظامهم التعليمي على أساس حفظ العرب للشعر وتكراره، حيث كان الشعر متعتهم في أهوائهم وأسفارهم. وقد وظفوا الشعر في علوم النحو، كما في "ألفية ابن مالك"، التي تُعدّ من روائع النحو عالميًا، لما فيها من توظيف بديع لحب الإنسان العربي للشعر والغناء، وتوظيف هذه العاطفة لفهم مراحل متقدمة من علوم اللغة. فبهذه الألفية تم دمج العنصر التعليمي مع الترفيهي، وهي فكرة أثبتت فعاليتها حديثًا في نظم تعليمية كالأنظمة الإسكندنافية. ومن العناصر المتجذرة أيضًا في تقاليدنا التعليمية: قلة عدد الطلبة، حيث كانت الحلقات التعليمية تقوم على المعلم وتلاميذ قلائل، ما عزز العلاقة الشخصية بينهم. العلاقة التي نشأت بين ابن القيم وأستاذه ابن تيمية، أو بين أرسطو وأفلاطون في السياق الإغريقي، تؤكد أهمية هذه الصيغة. إذًا العرب وجدوا في الحفظ مكوّنًا فطريًّا يتناغم مع ثقافتهم الإسلامية والعربية، كما وجدوا أن القلة في العدد تزيد في البركة وتثري المخرجات. |
كثرة العدد، قلة الجدوى |
من كل ما سبق، يتبين أن كثرة المتعلمين لا تعني بالضرورة جودة في التحصيل العلمي. إذ نجد اليوم طلابًا يُلقَّنون تلقيًا سطحيًا دون تفاعل مع المعلّم، بينما كانت العلاقة في صدر الإسلام علاقة علم وتربية، وكان المعلم عَلَمًا يرافقه طلابه في حلّه وترحاله. أما الآن، فقد تحوَّل التعليم إلى وظيفة ميكانيكية خالية من الروح، تفتقر إلى الأبعاد المعرفية والإنسانية، ويغلب عليها الجمود. وأصبح التعليم مهنة لا رسالة، والمشكلة لا تكمن في المعلم أو الطالب، بل في البنية المستوردة التي لم تُبنَ على أسس ثقافتنا وواقعنا. |
العلم الشرعي وحصانته من التغريب |
تأكيدًا لما سبق، لا تزال الحلقات الشرعية وعلوم الآلة في المساجد والمراكز الإسلامية حول العالم تتبنى الطريقة العربية الأصيلة، وتحقق تفوقًا ملحوظًا على غيرها من النظم الأكاديمية الحديثة. ويكمن السر في احتفاظها بطريقة موروثة أثبتت فاعليتها في سياقها، دون أن تنساق وراء محاولات التأطير الأكاديمي والتنظيم الشكلي. وبدلًا من أن يُضعفها هذا، قل عدد المتعلمين، مما زاد من تركيز المعلمين على تلاميذهم. وبهذا، استمرت هذه الحلقات في تخريج الآلاف من حفظة كتاب الله وعلماء الشريعة ممن نفع الله بهم الأمة. |
الخاتمة |
وفي الختام، لا يعني هذا أن النظام التعليمي الحديث لا يُعوّل عليه، بل يمكن تطويره ليستفيد من النجاحات التي حققتها الحلقات التقليدية والمراكز الإسلامية، بما يضمن جودة المخرجات. الهدف ليس التقليل من المعلمين أو المتعلمين، بل الحرص على عمق الأثر الناتج عن التعليم. فكما رأينا، الطريقة الكلاسيكية ظلت بمعزل عن تغوّل التأطير المدرسي الحديث، وهذا ما جعلها تحافظ على خصوصيتها ومنهجيّتها المخالفة للأساليب المستوردة، فنجتْ من الذوبان، وأثبتتْ قدرتها على البقاء والتجدد. |
التعليقات