شـامـل | في محراب الضاد: تراتيل هويّة شعب يأبى الانقياد | العدد #16

20 مايو 2025 بواسطة أحـمـد الحـجـيلـي #العدد 16 عرض في المتصفح
تعد السلوكيات التي ترثها أي حضارة من أسلافها مصدرًا لنموّها وتعزيز حضورها، إذ إن هذه السلوكيات غالبًا ما تمتزج بعادات وتقاليد إثنية، سواء أكانت عرقية أم دينية أم مذهبية. وتُعد هذه السلوكيات الثقافية الموروثة بمثابة الخطوط العريضة لمعالم هذه الحضارة، ويُشكّل التمسّك بها التشكيل الذي يزيّن هذه الخطوط ويضفي عليها رونقًا وجمالًا في أعين الآخرين من الثقافات الأخرى، فيرون في هذه الثقافة وسلوكياتها وعاداتها وتقاليدها لوحة فنية مرسومة بعناية وتمازج مدهش وساحر على جدران الفناء.

سحر الثقافة العربية وتنوّعها

ولثقافتنا العربية الكثير من الجماليات والسحر الذي لا يزال يأسر عقول الكثير من شعوب وثقافات وأعراق أخرى. نبدأ من ثقافتنا المعاصرة وتناقضاتها الجميلة، واختلافاتها من بلد إلى آخر؛ فكل بلداننا تمتلك سحرًا خاصًا يميزها ويُثري موروثنا: من الخليج العربي، مهد العروبة وأساسها وأسمى مبتغاها، إلى العراق بنهريه، وبلاد الشام بقلبيها، ومصر بحارسيها، والمغرب العربي بعمقه التاريخي والثقافي.

تحديات العولمة والانفصام الثقافي

لكن، في مقابل كل هذا الجمال، يجب علينا أن نوسع العدسة أكثر لنرصد الإشكاليات العميقة التي تهدد وحدتنا الثقافية. وتتمثل هذه التهديدات في الانسياق اللاواعي وراء التيارات الثقافية والعولمية المفروضة علينا، من خلال استهلاكنا اليومي لمواد إعلامية وثقافية تتصادم جذريًا مع جذورنا الحضارية، تلك التي بذل أسلافنا جهودًا مضنية لحمايتها عبر العقود.

نحن نستهلك يوميًا مواد صيغت لفكر أمة غربية سعت منذ لحظتها الأولى إلى الإيحاء بتفوّقها الحضاري والثقافي على سائر الأمم، رغم أن جذورها ليست إلا نتاجًا هجينًا لقبائل أنجلو-ساكسونية لم تكن تُعرَف قبل ألف عام بثقافة يحترمها العالم. إنها ثقافة نشأت من الفراغ، بينما ثقافتنا زادت اللغة العربية عمقًا، وانتشلها فجر الإسلام من التفكك، ليُثري صرفها ويوحد صوتها، ويضيف إلى بلاغتها روعةً فوق روعة.

التهديد الحضاري وفقدان الهوية

إن رحلة الحفاظ على موروثنا الثقافي ليست بالأمر السهل، فنحن نواجه تهديدًا حضاريًا حقيقيًا يستهدف لغتنا وعاداتنا وتقاليدنا، التي لا تضاهيها أي ثقافة في جمالها ورونقها. إن هذا الموروث يحتاج إلى عزيمة حازمة لمواجهة كل من يسعى، بوعي أو بجهالة، إلى استبداله تحت شعارات التحديث والتطور الزائف، الذي لا يعني إلا الذوبان في ثقافات الآخرين.

فالتطور الحقيقي يبدأ بتعزيز الذات الثقافية ولونها ونكهتها وجمال أصواتها. فنحن أمة الضاد ولسنا أتباعًا تُقاد، ولا ورثة لحضارات كانت لا تعرف من المدنية سوى السطو وعبادة الأوثان. نحن بجاهليتنا كنّا مضرب المثل، فلما جاء الإسلام، نزل بكلمات ربانية ثقيلة المعنى، زادتنا عزًا وسموًا.

الانبهار الثقافي وغياب التمييز

وفي مشهد اليوم الثقافي، نرى بعض شبابنا يسعون خلف وهْمٍ صُوّر لهم في الإعلام، مفاده أن ثقافة الآخرين أرقى، فصاروا يأخذون القشور ويهملون الجواهر، فنتج عن ذلك مسخ ثقافي لا يحمل هوية واضحة: لا هو عربي خالص، ولا هو غربي أصيل. نتاج يجمع تناقضات أمتين لا يجمع بينهما موروث ولا لغة ولا روح. وهذا هو الثمن الباهظ لمن يتخلى عن جمال ثقافته وأصالتها ليكون في ذيل ثقافات الآخرين، متطفلًا على ما لا ينتمي إليه، فاقدًا لمكنونه الداخلي.

التجارب الدولية: دروس في المقاومة الثقافية

إن اعتزازنا بلغتنا وحضارتنا يجب أن يكون تكليفًا لا تشريفًا. نحن مسؤولون عن حمايتها من الضياع، كما فعلت شعوب أخرى واجهت محاولات طمس هويتها، كالإيرلنديين في جمهورية إيرلندا، أو الناطقين بالفرنسية في كندا، أو شعوب جنوب أفريقيا ونيوزيلندا.

لقد سعت الإمبراطورية البريطانية، من خلال استعمارها، إلى استحمار الشعوب لا استعمارها فحسب، فطمست هوياتهم إما بالترهيب أو بالترغيب. ولنا في ما فعله الاحتلال الإنجليزي مع الشعب الإيرلندي مثال صارخ، حين كان يُقتل كل من يتحدث بالإيرلندية. حتى أصبحت إيرلندا اليوم الدولة الوحيدة التي يتعلم فيها الشعب لغته الأم كلغة ثانية.

نحو تشريعات تحمي الموروث العربي

إن ما حدث في إيرلندا يجب أن يكون جرس إنذار لنا. إننا اليوم نُذبح ببطء، ونشارك في هذا الذبح الثقافي بجهلنا وسكوتنا. لن يستطيع موروثنا الصمود أمام هيمنة ثقافية شاملة ما لم نسعَ لحمايته، تمامًا كما فعلت مقاطعات كندا الناطقة بالفرنسية.

نحن بحاجة إلى قوانين صارمة تعزز هويتنا، وتحظر كل أشكال التغريب، وتفرض التعريب على كل مقروء ومكتوب. كما نحتاج إلى خطاب إعلامي موحد يرسّخ الاعتزاز باللغة والثقافة، ويمنع كل من يسعى إلى تحقير هذا الموروث العظيم.

الخاتمة

إن ثقافتنا ولغتنا هي هدية من رب الأكوان، ميزنا بها عن سائر الأمم، فصارت لغتنا لسان مليار مسلم، يتلفظ بها خمس مرات في اليوم، ويقرأ بها كتابه المقدّس. هي لغة فاضت بجمالها على غيرها، وتعززت محبةً في الدين والهوية، وشكّلت فسيفساءها من أحجار العادات وسلوك الشعوب. نحن خير أمة إن كنا على قدر هذه المسؤولية، وإن سعينا كما يسعى الراعي لرعيته. فبقدر تمسّكنا، يكون مستقبلنا.

مشاركة
شـامـل

شـامـل

«شـامـل» | نشرة بريدية أسبوعية 📩 تُكتب من صُلب أفكار أحمد الحجيلي، ولأن كل فكرة تستحق أن تُروى كاملة، فـ «شـامـل» نشرة شاملة. «شـامـل» ليست مجرد نشرة، بل رحلة فكرية تأخذ قرّاءها إلى زوايا الأدب، والفكر، والثقافة، والتأملات النقدية، وحتى التساؤلات العابرة التي قد تقود إلى رؤى جديدة. لا تتبع خطًا واحدًا، ولا تلتزم بقالب جامد، بل تنمو مع كل عدد، تمامًا كما تنمو الأفكار في العقول، والأزهار في الحقول. في «شـامـل» لا أعدك بموضوعات تُقرأ وحسب، بل بمحتوى يحفّز عقلك، ويثير فضولك، ويفتح أمامك نوافذ جديدة على العالم. 📌 سوف تجد في «شـامـل» ☘ مقالات متنوعة تتناول كل ما يستحق القراءة والتأمل. ☘ تحليلات نقدية تُعيد النظر في الأفكار السائدة. ☘ مساحة مفتوحة لاكتشاف الجديد والمختلف. ☘ محتوى بلا قيود، كالفكرة التي تلهمنا دائمًا. في «شـامـل» الفكرة ليست النهاية، بل البداية لحوار جديد. — اشترك الآن، ودع الأفكار تأخذك في رحلة بين شِعاب عقل الكاتب، إلى أماكن لم تخطر ببالك!

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من شـامـل