شـامـل | يسـارُ اليسَـار: طموحٌ لعالم بلا أسوار | العدد #15

13 مايو 2025 بواسطة أحـمـد الحـجـيلـي #العدد 15 عرض في المتصفح
تُعَدّ حركة الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر في القرن السادس عشر ضد الكنيسة الكاثوليكية من أبرز المحطات التاريخية التي أسهمت في تشكيل ملامح الفكر الغربي الحديث، إذ فتحت الباب أمام نقد السلطة الدينية، وأرست مفاهيم الفردانية والحرية الدينية. ومع ذلك، فإن تطوّر الفكر الغربي الحديث لم يكن حصيلة هذه الحركة وحدها، بل جاء نتيجة تراكمات أوسع، شملت عصر النهضة، والثورة العلمية، والتنوير. ومع مرور الزمن، بات اليسار الغربي، الذي انطلق في بداياته من منطلقات إنسانية وأخلاقية، عرضة لاختطافٍ من قبل تيارات راديكالية دفعت به نحو مطالبات تتناقض مع كينونة الإنسان، وتفكك البنى الأخلاقية والمجتمعية التي شكّلت أساس المجتمعات الغربية، تحت شعار "عالم بلا أسوار".

اليسار والطريق نحو الفردانية

بنى التيار اليساري، في معركته ضد المؤسسة الدينية والسلطوية، سرديته على قيم الفردانية والعدالة والمساواة. ومع مرور العقود، تطورت هذه السردية، وبدأت تنحرف عن اعتدالها، متأثرة بالتحولات الفكرية والمدارس الفلسفية التي بالغت في تمجيد الفرد على حساب الجماعة. حتى وصلنا اليوم إلى لحظة مفصلية، يشهد فيها اليسار الراديكالي حالة من الانحدار القيمي، إذ تحوّل من مدافع عن الحريات والحقوق إلى حامل لأفكار مثيرة للجدل اجتماعيًا، تقوم على فردانية متطرفة، خالية من أي جذور مرجعية مستقرة، ومنفصلة عن روح المجتمع ومسؤولياته.

اليافعون وضبابية الهوية في الخطاب الراديكالي

منذ ظهور اليسار الحديث، كان الشباب واليافعون أكثر الفئات تأثرًا بخطابه، نظرًا لما يمتازون به من توق إلى التغيير، وسرعة في تقبّل الجديد. هذه القابلية جعلتهم في مرمى خطاب اليسار الراديكالي، لا سيما في قضايا ذات طابع هوياتي معقّد، والتي يُروَّج لها اليوم ضمن سرديات الحرية الفردية والحقوق الجندرية. ما ولّد، لدى بعض اليافعين، مفاهيم ضبابية عن الذات، وهويات مشوشة لا تستند إلى مرجعية مجتمعية واضحة، مما أدى إلى حالة من التنافر مع المحيط الاجتماعي، وارتباك في التوازن بين الخصوصية الفردية والمسؤولية الجماعية.

المساواة بين الجنسين: من الشراكة إلى التنميط

لطالما تبنّى اليسار خطاب المساواة بين الجنسين، وساهم في تمكين المرأة وتعزيز مشاركتها في المجتمع، وهو إنجاز لا يُنكر. غير أن اليسار الراديكالي شوّه هذه المكاسب، من خلال خطاب إعلامي ونظري يُروّج لمساواة مطلقة تتجاهل الفروق البيولوجية والنفسية، وتسعى إلى تنميط الأدوار الإنسانية تحت مبدأ "التماثل الكامل". المفارقة أن هذا الخطاب، في كثير من الأحيان، ترافق مع ارتفاع معدلات العنف ضد النساء، وتزايد حالات الاستغلال والاعتداء، ما يطرح تساؤلات جادة حول فعالية هذه الطروحات في تحسين واقع المرأة، بل وقد يُظهر أنها أضرت بها أكثر مما أفادتها.

خــتـــامـــًا

يُقال إن كل شيء إذا تجاوز حده انقلب إلى ضده، ويبدو أن هذا ما حدث مع اليسار في نسخته الراديكالية، التي أضرت باليسار المعتدل ذاته، وشوّهت صورته الفكرية والتاريخية. فقد كان لهذا التيار، في لحظة ما، دور في إخراج الغرب من جمود الفكر وسلطة الكهنوت، غير أن تصدُّر فصيله المتطرف للمشهد اليوم، جعله رمزًا لفكر منفلت، بلا قيود ولا ضوابط، وفردانية مفرطة تسعى لهدم ما تبقى من أسوار معنوية تحفظ للإنسان إنسانيته. المطلوب اليوم ليس تبني هذا الخطاب أو الترويج له، بل إعادة التوازن للعقل الغربي، عبر شراكة عقلانية بين يمين اليسار ويسار اليسار المعتدل، تحافظ على المكتسبات، وتمنع الانزلاق نحو التطرف بجميع صوره.

مشاركة
شـامـل

شـامـل

«شـامـل» | نشرة بريدية أسبوعية 📩 تُكتب من صُلب أفكار أحمد الحجيلي، ولأن كل فكرة تستحق أن تُروى كاملة، فـ «شـامـل» نشرة شاملة. «شـامـل» ليست مجرد نشرة، بل رحلة فكرية تأخذ قرّاءها إلى زوايا الأدب، والفكر، والثقافة، والتأملات النقدية، وحتى التساؤلات العابرة التي قد تقود إلى رؤى جديدة. لا تتبع خطًا واحدًا، ولا تلتزم بقالب جامد، بل تنمو مع كل عدد، تمامًا كما تنمو الأفكار في العقول، والأزهار في الحقول. في «شـامـل» لا أعدك بموضوعات تُقرأ وحسب، بل بمحتوى يحفّز عقلك، ويثير فضولك، ويفتح أمامك نوافذ جديدة على العالم. 📌 سوف تجد في «شـامـل» ☘ مقالات متنوعة تتناول كل ما يستحق القراءة والتأمل. ☘ تحليلات نقدية تُعيد النظر في الأفكار السائدة. ☘ مساحة مفتوحة لاكتشاف الجديد والمختلف. ☘ محتوى بلا قيود، كالفكرة التي تلهمنا دائمًا. في «شـامـل» الفكرة ليست النهاية، بل البداية لحوار جديد. — اشترك الآن، ودع الأفكار تأخذك في رحلة بين شِعاب عقل الكاتب، إلى أماكن لم تخطر ببالك!

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من شـامـل