شـامـل | الخيانة «الموضوعية»: أساس إعلام ما بعد الإنسانية | العدد #11

بواسطة أحـمـد الحـجـيلـي #العدد 11 عرض في المتصفح
في القرن العشرين، ومع ازدهار الصحف وظهور التلفزيون، سادت تصورات راسخة تُلزم وسائل الإعلام بثلاثية: الحياد، والموضوعية، والمصداقية. ولكن سرعان ما أُقصي "الحياد" من هذه المعادلة، وبقيت بعض وسائل الإعلام تتغنّى بالموضوعية والمصداقية كقيمتين مركزيتين، تُجسَّدان في التحليل والتقرير، وتُعنون بهما مقالاتها بعناوين باهتة لا طَعم لها ولا رائحة.لكن سِمة "الموضوعية"، التي رُفعت شعارًا لعقود، وقعت تحت اختبارات حقيقية وصعبة. أبرز تلك التحديات جاء من جمهور هذه الوسائل ذاتها، جمهور بدأ يرى في "الموضوعية" اصطدامًا صارخًا مع حقوق الإنسان وكرامته، بل وتواطؤًا غير مباشر ضد الضحية. إذ كيف لوسيلة إعلام أن تتغنّى بالموضوعية بينما يتعرّض جمهورها للجوع والحصار وانتهاكٍ صريح لحقوقه؟ في مثل هذا السياق، تصبح "الموضوعية" عبئًا أخلاقيًا، وتغدو مراجعة المعايير الإعلامية ضرورة لا ترفًا، لأننا نعيش زمنًا لم تعد فيه الموضوعية قابلة للتطبيق، وصار الالتزام بالمصداقية هو الأساس الذي ينبغي أن يُبنى عليه الخطاب الإعلامي.تحوّلت وسائل الإعلام، شاءت أم أبت، إلى معسكرات إعلامية تستقطب جمهورًا خاصًا بها، جمهورًا نشأ على خطابها وتربّى على لغتها. هذا الجمهور بات يمجّ الخطاب "الموضوعي" المصطنع، وفي زمن الإعلام التفاعلي، يطالب وسيلته الإعلامية بأن تخلع هذا الرداء الضيّق الذي يعوق حركتها ويشلّ تقدمها. والمقصود هنا ليس الانزلاق نحو خطاب شعبوي مبتذل، بل أن يكون الخطاب أكثر صدقًا ووضوحًا، فـلا حياد أمام قتل إنسان، ولا موضوعية عند امتهان كرامة امرأة تُسحل في الشوارع.

الموضوعية لا تعني الشعبوية

من الأخطاء الشائعة التي يقع فيها كثيرون، الاعتقاد بأن التخلي عن الموضوعية يعني حتمًا السقوط في الشعبوية. وهذا خطأ فادح. فالانسلاخ عن الموضوعية لا يعني بالضرورة تبنّي خطاب غوغائي متفلّت، بل قد يعني الانحياز لمشاعر الناس وقضاياهم، ومخاطبة وجدانهم. لقد أصبحت الموضوعية، منذ أن اعتُمدت بديلًا عن الحياد في العقود الثلاثة الأخيرة، عاجزة عن تلبية تطلعات الجمهور، وأسهمت -بشكل غير مباشر– في تطبيع المشاهد اللاإنسانية التي تعرضها النشرات والتقارير الإخبارية يوميًا.

تلك المشاهد المروّعة عادةً ما تُقدَّم بلغة محايدة وبنبرة رتيبة تُقلل من هول الفاجعة، وتُطفئ حرارتها في قلب المتلقي. وهذا أمر يجب رفضه تمامًا، لأنه يُفسد الوعي ويُخدّر الإحساس.

كوارث تسبّب بها الطرح «الموضوعي»

لقد حوّلت اللغة المنمقة والخطاب الموضوعي آلام الشعوب ومآسيها إلى مادة يومية قابلة للاستهلاك الإعلامي. تتعامل كثير من الوسائل مع الضحايا كأرقام، ومع المعاناة كخبر عابر. حين تُبثّ صور لجثث متفحمة أو أشلاء أطفال، كان الأجدر أن يصاحبها خطاب غير محايد، خطاب يتماهى مع هول المصاب.

فإذا كانت المعايير الصحفية تصطدم بقيمنا الإنسانية، فلا ينبغي الالتزام بها. والأسوأ أن هذه المعايير –عدا المصداقية– غالبًا ما تساوي بين الجلاد والضحية، أو تميل لأحدهما ميلًا خجولًا لا يُذكر ولا يُشكر.

المصداقية: العمود الأخير

المصداقية، من بين المعايير الثلاثة، هي الوحيدة التي لا يمكن التفريط بها. فهي جوهر الخبر، وركيزة الحياد الحقيقي، وأساس الموضوعية التي لا تُخدّر الضمير. فالعدل أولى من الحياد، والمصداقية أسمى من التظاهر بالموضوعية.

هذه القيم التي استوردناها من النموذج الغربي، والذي يتخلّى عنها متى شاء، آن الأوان أن نُعيد تقييمها بما يتناسب مع قيمنا العربية والإسلامية، الأصيلة في جوهرها، والغنية في دلالاتها. المصداقية –برأيي– هي العمود الفقري الذي ينبغي أن تقوم عليه الوسيلة الإعلامية. فالجمهور لا يقبل الكذب، حتى وإن كان يخاطب مشاعره، لكنه بات يرى في "الموضوعية" كما تُمارَس اليوم، محاولة لتمييع ما لا يجوز تمييعه، وتخديرًا لا واعيًا لجمهور أنهكته الكوارث.

مسك الختام

لقد كشف الاستقطاب الحاد في المشهد الإعلامي، عن كوارث ارتكبتها "الموضوعية" باسم المهنية، بدءًا من الطرح الباهت لمعاناة المحاصَرين والجوعى، وصولًا إلى خطاب تلميعي يقتل الحماسة، ويقنع الجمهور بالتعايش مع الرعب.

إن المشاهد التي تقشعر لها الأبدان، حين تُعرض على الشاشات، لا بد أن يصاحبها خطاب غير حيادي، خطابٌ صادق، واضح، لا يُخادع ولا يُجامل. حان الوقت لأن يكون الإعلام رأس حربة لا لسانًا خجولًا، وأن يتخلى عن الغطاء المحايد حينًا، والموضوعي حينًا آخر، فكلا الغطاءين بات مثقوبًا في عالم مثقوبٍ أصلًا في عدالته وإنسانيته. المصداقية، وحدها، هي ما يُميزنا عن خطاب أعدائنا.

مشاركة
شـامـل

شـامـل

«شـامـل» | نشرة بريدية أسبوعية 📩 تُكتب من صُلب أفكار أحمد الحجيلي، ولأن كل فكرة تستحق أن تُروى كاملة، فـ «شـامـل» نشرة شاملة. «شـامـل» ليست مجرد نشرة، بل رحلة فكرية تأخذ قرّاءها إلى زوايا الأدب، والفكر، والثقافة، والتأملات النقدية، وحتى التساؤلات العابرة التي قد تقود إلى رؤى جديدة. لا تتبع خطًا واحدًا، ولا تلتزم بقالب جامد، بل تنمو مع كل عدد، تمامًا كما تنمو الأفكار في العقول، والأزهار في الحقول. في «شـامـل» لا أعدك بموضوعات تُقرأ وحسب، بل بمحتوى يحفّز عقلك، ويثير فضولك، ويفتح أمامك نوافذ جديدة على العالم. 📌 سوف تجد في «شـامـل» ☘ مقالات متنوعة تتناول كل ما يستحق القراءة والتأمل. ☘ تحليلات نقدية تُعيد النظر في الأفكار السائدة. ☘ مساحة مفتوحة لاكتشاف الجديد والمختلف. ☘ محتوى بلا قيود، كالفكرة التي تلهمنا دائمًا. في «شـامـل» الفكرة ليست النهاية، بل البداية لحوار جديد. — اشترك الآن، ودع الأفكار تأخذك في رحلة بين شِعاب عقل الكاتب، إلى أماكن لم تخطر ببالك!

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من شـامـل