شـامـل | العقيدة التعليمية: بين أصالة ماضٍ آسر وحاضرٍ قاصر | العدد #8 |
بواسطة أحـمـد الحـجـيلـي • #العدد 8 • عرض في المتصفح |
بدأت كثيرٌ من مدارسنا في العالم العربي عقيدتها التعليمية في القرن العشرين مستندةً إلى التراث العربي والإسلامي، حيث نشأ التدريس في الجوامع والزوايا ودور تحفيظ القرآن الكريم. وقد قامت هذه العقيدة التعليمية على مبدأ "لقّن واشرح"، مما أثمر أجيالًا برعوا في العلوم اللغوية والشرعية والفقهية وغيرها من العلوم الإنسانية، حتى أصبحوا أعلامًا يُشار إليهم بالبنان، ويفخر بهم التاريخ في كل زمان ومكان.لكن مع تغيّر الزمن، وارتباط المؤسسات التعليمية بسياسات وزارات التعليم، حدث اصطدامٌ في أواخر القرن العشرين، حين توسّعت المناهج وأُدمجت العلوم الإنسانية مع غيرها بشكل موسّع، متجاوزةً بذلك النهج التراثي القديم. غير أن هذا التحوّل أهمل عنصرًا جوهريًا يُثري العملية التعليمية ويُعزّزها، ألا وهو الممارسة العملية. فبالرغم من أن علوم اللغة تُصنّف ضمن العلوم الإنسانية، إلا أن إتقانها لا يتحقق بالتلقين والشرح وحدهما، بل بالممارسة الفعلية. ولنا في أسلافنا خير مثال، فقد مارسوا اللغة عفويًا في أشعارهم وقراءاتهم وكتاباتهم وأحاديثهم، بينما بقيت مدارسنا متمسكة بمنهج "لقّن واشرح" دون أن تمنح الطلاب فرصة التذوق الحقيقي للغة، كما كان يفعل الأجداد حين انغمسوا في جمالها واستمتعوا بجمال أفعالها وصفاتها.
|
|
الممارسة جزءٌ أساسي، لا مكمّل |
من الإشكاليات الكبرى التي عصفت بالعملية التعليمية في عالمنا العربي، اعتبار الممارسة عنصرًا ثانويًا يُخصَّص له وقتٌ ضئيل، وكأن الإتقان المؤقت يُعدّ كافيًا، بينما الحقيقة أن التمكّن لا يترسّخ إلا بالممارسة المكثفة. |
هذا القصور ينبع من ثلاث إشكاليات متداخلة: |
1 - قصورٌ في استيعاب أهمية الممارسة: إذ إن العديد من المؤسسات التعليمية لا تدرك أن الممارسة هي الأساس وليست المكمّل، مما أدى إلى ضعف تطبيقها في الميادين العلمية. |
2 - مناهج مثقلة بالمواد: حيث يُرهَق المعلمون بكمٍّ هائلٍ من المحتوى المطلوب تدريسه خلال أشهر معدودة، مما يقلّل من الوقت المخصص للممارسة. |
3 - انعكاسات كارثية على المتعلمين: فبعد سنوات من التعليم النظري، يجد الطلاب أنفسهم عاجزين عن تطبيق ما تعلّموه في الحياة اليومية، مما يُفاقم الفجوة بين المعرفة والتطبيق. |
الممارسة شريان العملية التعليمية |
علينا أن ندرك أن الممارسة هي شريان التعلم، فهي التي تربط المعرفة ببعضها البعض، وبدونها تصبح المعرفة هشّة وعابرة. فالممارسة تؤدي إلى الإتقان، والإتقان يعني الدوام. وهذا هو السبب الذي يجعل أصحاب العمل يفضّلون توظيف ذوي الخبرة على حديثي التخرج، لأن الخبرة تعني الممارسة الحقيقية، لا مجرد المعرفة النظرية. |
هذا ما أدركه أسلافنا حين حفظوا العلوم وتدارسوا فروعها، فلم يكتفوا بالتلقين، بل غاصوا في التجربة العملية التي صقلت مهاراتهم، فأتقنوا علومهم حتى أصبحوا مراجع في الفصاحة والبلاغة. |
مسك الختام |
لقد بات واضحًا أن العقيدة التعليمية التي انتهجناها في العالم العربي تعاني من إشكاليات معقدة تحتاج إلى إعادة تقييم، إذ إنها لم تعد قادرة على إنتاج مخرجات تعليمية مستدامة. فلا يمكننا أن نعوّل على نظامٍ يرتكز على التلقين وحده، وإلا فإننا سنظل ندور في حلقة مفرغة لا نهاية لها. |
علينا أن نُعيد النظر في جوهر التعليم، وأن نسعى لإيجاد حلول عملية تضمن تكامل التلقين مع الممارسة. ولتحقيق ذلك، لا بد من إنشاء جهة مختصة داخل المؤسسات التعليمية تتولى وضع استراتيجيات تفعيل الممارسة ضمن المناهج الدراسية، وتشرف على تطبيقها في المدارس والجامعات. |
إن أجيال المستقبل تستحق أن تُتاح لها فرصة التعلم الحقيقي، حتى يأتي يومٌ يفتخر فيه أحفادنا بجيلٍ نهض بالتعليم كما نهضت به أجيال الأوائل، وأصبحوا هم البنيان الذي يُشار إليه بالبنان. |
التعليقات