نشرة سرد البريدية - #10: الألم الجميل.. أيام على شرفة البحر الأسود

7 سبتمبر 2025 بواسطة هند عامر #العدد 10 عرض في المتصفح
كما أن للبحر سوادًا يثير الرهبة، فإن للإنسان أعماقًا مظلمة من مخاوف وشكوك، لكنها لا تلغي قدرته على العطاء والصفاء.

انقطعت عن كتابة تدوينات النشر للأسبوع الماضي بسبب موجة حزن نالت مني وعطلت كل مشاريعي وقد ذكرتني بأيّامٍ طويلة أمضيتُها على شرفةٍ تطلّ على البحر الأسود، والبحر في تلك الأيام كان يشبهني أكثر مما يشبه نفسه؛ فماؤه الكثيف بلونه الغامق بدا وكأنه مرآة لروحي المثقلة، وأمواجه الثقيلة تردّد صدى ما يختلج في داخلي، ولم يكن البحر يواسيني، بل كان يواجهني، يذكّرني بعمق حزني وبامتداد وحدتي.

كنت أراقب خطّ الأفق فلا أراه، كأن السماء ابتلعت البحر أو كأن البحر قرر أن يخفي ملامحه، كما حاولت أنا أن أخفي وجعي. هناك، في صمت العزلة، كان كل شيء يضغط عليّ: أصوات الطيور الخافتة، نسمات الهواء التي تتسلل دون إذن، حتى ارتطام الموج بالحجر بدا وكأنه إيقاع ثقيل يذكّرني أن لا مفرّ من مواجهة ذاتي.

لكن الغريب أن تلك العزلة لم تكن خرابًا خالصًا؛ كانت مثل كهفٍ مظلمٍ يهيّئك لأن ترى النور بوضوح حين يجيء. كان البحر الأسود يعلّمني أن القتامة ليست نقيض النور، بل شرط من شروطه، وأنك حين تجلس طويلًا أمام سوادٍ مطلق، يبدأ شيءٌ في داخلك يتوق للإشراق، للرؤية، للحياة من جديد.

مع الألم الكامن في أعماقي كنت أتلمس المعاني واللطف الخفي الذي يسر الله لي فيه عزلة على البحر الأسود تحديداً في تلك الفترة المظلمة من حياتي، فالبحر الأسود لم يكن مجرد بحر مغلق أمامي، بل نافذة على التاريخ والحضارة، مسرح صراع حضارات وإمبراطوريات؛ من اليونان وروما، مرورًا بالعثمانيين والروس، وصولًا إلى حروب القرن العشرين والواحد والعشرين، و هو أشبه بمرآة لصراع القوة والسيادة على التجارة،والمضائق، والهوية الحضارية.

كنت أتلمس فلسفة ارتباط البحر الأسود كمكان بي أنا كإنسان، وشعرت لوهلة أن ثمة تشابه كبير بين هذا البحر وبين كل واحد منا ، فكما أن البحر ذاكرة عميقة تختزن في أعماقه حكايات الغزاة والتجار والبحارة، الإنسان أيضا يحمل في داخله تاريخًا لا يُرى بالعين المجرّدة، لكنه يُشكّل هويته، وكما يُخفي البحر الأسود أسراره في الأعماق، يخفي الإنسان طبقات من التجارب والذكريات التي تشكّل شخصيته.

هل انتهت أوجه التشابه؟! لا فالبحر الأسود كـ تقاطع بين الانغلاق والانفتاح يستحق التأمل، فهو محاط بثماني دول، ومع ذلك يتصل بالبحار الأخرى عبر مضيق البوسفور، أي أن البحر الأسود يعلّمنا أن الانفتاح لا يُلغي الخصوصية، وأن الإنسان قادر أن يكون عميقًا في داخله، ومنفتحاً على العالم في آن واحد.

أما التشابه الأخير الذي بث الأمل في نفسي فهو أن البحر الأسود كـ رمز للحركة المستمرة بتياراته الداخلية، أمواجه، سفنه، موانئه، كلها حركة وصيرورة، أشبه مايكون بالإنسان ليس ثابتًا، بل هو كيان متحوّل، تحركه رياح الحياة وتعيد تشكيل ملامحه.

كانت تلك الأيام التي ظاهرها ظلمة حالكة، تحمل نوراً خفيا في طياتها، بدت معالم الوعي الكامل بحالتي تتجلى لتنتشلني من غياهب الحزن، و لتعيد لي الأمل وتجعلني أنتقل من فعل اللاشيئ لوضع خطة للقادم من الأيام، ثم يسر الله لي بلطفه نجاة من تلك المرحلة وكان عند حسن ظني به سبحانه، وأسأله أن يشملني ويشملكم بلطفه في كل حين.

• نقطة آخر السطر:

أحياناً تدرك متأخراً أنك لاتعيش الحياة، بل تعيش ما تقوله لنفسك عنها!

——-

كتبته هند عامر

في مطلع سبتمبر ٢٠٢٥م

م. طارق الموصللي1 أعجبهم العدد
مشاركة
نشرة سرد البريدية

نشرة سرد البريدية

سرد، نشرة تمضي فيها هند عامر إلى عمق الحكايات، لا لترويها فحسب، بل لتُصغي إلى ما بين سطورها؛ هناك حيث تتشكّل البصيرة، ويتهذّب الشعور، ويتجه السلوك نحو وعيٍ أعمق. ففي كل قصة مرآة، وفي كل سرد سؤالٌ يباغتنا: هل تكفي حكاية لتغيير مسار حياة؟

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة سرد البريدية