نشرة سرد البريدية - العدد #5 حكايات مع غزة |
27 يوليو 2025 • بواسطة هند عامر • #العدد 5 • عرض في المتصفح |
في الفلسفة الرُوحية للأماكن، هناك ما يسمّى “مكان الإلحاح الأخلاقي”؛ أي الأرض التي تُطالبك بأن تستفيق، بأن تشهد، بأن تختار موقفًا، غزة الآن هي هذا المكان.
|
|
هذه ثلاث حكايات؛ عن غزة كمكان؛ وغزة كحقيقة؛ وغزة كشعور؛ جمعتها وأوجزتها ونثرتها. |
![]() في "خريطة مادبا، وهي فسيفساء أرضية من القرن السادس تصوّر الأرض المقدسة، تشير إلى مدينة غزة على أنها سابع أقدم مدينة في التاريخ. |
(١) |
غزة المكان |
في فلسفة المكان، لا يُقاس الوجود بالبنيان، بل بما تراكم فيه من ذاكرة، وما تناثر على جدرانه من ظلال الحكايات، وما استبطنته أرضه من شوقٍ وانكسارٍ ونبوءة، وغزة كمكان تعد مدينة ضاربة في عمق التاريخ، مرّت عليها حضارات وأمم، وتنازعتها قوى كبرى عبر العصور، لكنها ظلت صامدة كأنها تُعيد تعريف البقاء. |
لطالما كنت ذاهلة وأنا أغوص في غزة كمكان وكتاريخ وكحضارة؛ فغزّة ليست مجرّد بقعة جغرافية على خارطة السياسة، بل موضع في قلب الحضارة، فهي أرضٌ مرت فوقها أقدام الكنعانيين والفراعنة والآشوريين والفرس والإغريق والرومان والعرب والمماليك والعثمانيين والبريطانيين والكيان المحتل، ولكن رغم كل هذا، لم تفرّط غزة في هويتها، لأنها ليست تابعة، بل حارسة للمعنى. |
خضعت غزة لسبعة عشر حكماً، وعانت أكثر من ثمانية عشر حربا ضروس على مدى تاريخها، وللحروب والمعارك الكبرى التي مرت بها غزة، منذ التاريخ القديم وحتى اليوم، سردٌ يشبه المدينة؛ عنيد وعابق بالألم، لكنه مغمور بالكرامة؛ انتهت الحروب وبقيت غزّة لتُعلّمنا أن المكان لا يُقاس بالبقاء، بل بالصمود وبالأثر؛ وأن الحضارة قد تُدفن مؤقتًا تحت الركام، لكنها لاتموت. |
لماذا نتحدث عن الفلسفة الروحية للأماكن حينما نتحدث عن غزة، لأن “المكان ليس ظرفًا محايدًا، بل هو أحد أبطال القصة البشرية.” كما يخبرنا الفيلسوف الفرنسي ميرلوبونتي؛ ولأن "الهوية الفلسطينية هي هوية مكانية بامتياز، فهي تكوّنت من الحرمان من المكان”، كما يحدثنا إدوارد سعيد، والخلاصة أنه في فلسفة الأماكن تُقرأ غزة كـ(مقاومة للطمس). |
![]() شعار مشروع الهاسبرا |
(٢) |
غزة الحقيقة |
كتبت قبل عشرة أعوام تقريرا استقصائيا عن مشروع “الهاسبرا” (Hasbara) - أي البروباغندا الإسرائيلية – ، وهو مشروع كان الكيان المحتل يضخ فيه المليارات لبناء صورة ذهنية عنه وعن فلسطين ومؤخراً عن غزة؛ لكن في السنتين الأخيرة تفاجأت بانهيار كل ما سعى الجهاز القائم على الهاسبرا لبنائه، فكل جهودهم طيلة أعوام تهاوت في ظرف عامين؛ و بوسعنا مقاربة ذلك عبر ثلاثة محاور رئيسية: الصورة، الرواية، والتحول العالمي. |
أما (الصورة)؛ فرغم مليارات الدولارات التي أنفقتها إسرائيل في حملات “الهاسبرا” لتلميع صورتها عالميًا، إلا أن مشاهد أطفال غزة تحت الأنقاض، وصوت الأمهات المنكوبات، وصور المقابر الجماعية في المدارس والمستشفيات، ومعارك الحصول على الطعام والماء؛ والأجساد التي فارقت الحياة جائعة ؛ كلّها تخترق الفلتر الدعائي وتصل مباشرة إلى وجدان المتلقي، والخلاصة أن كل صورة من غزة، تنسف آلاف الكلمات من “هاسبرا”. |
أما (الرواية)؛ فمشروع “الهاسبرا” بُني على فكرة رواية واحدة: “نحن الضحية، نريد الأمن، نحارب الإرهاب” |
لكن ماحدث في غزة من الحصار والتجويع والإبادة، أعاد تعريف من هو الضحية الحقيقية، و اليوم الرواية الشعبية حول العالم لم تعد تتماشى مع السردية الإسرائيلية الرسمية؛ بل إن كثيرًا من النخب الأكاديمية والناشطين وصنّاع الرأي العام باتوا يتحدثون عن “الأبارتايد”، و”الاستعمار الاستيطاني”، و”الإبادة الجماعية”! وهي مصطلحات كانت محرّمة في الغرب. |
ونختم الحديث عن انهيار الهاسبرا ب (التحول العالمي) تجاه القضية؛ فرغم السيطرة الإسرائيلية القوية على كثير من المنصات الإعلامية، إلا أن الأحداث في غزة استطاعت كسر السردية الرسمية في الجامعات الغربية، وتوحيد أصوات الجاليات؛ وتحريك حملات مقاطعة كبرى (BDS، سحب الاستثمارات)؛ وزرع الشك في نزاهة “قيم المجتمع الدولي” لدى الجيل الجديد؛ وفي كل مرة تصمد فيها غزة، يخسر مشروع “الهاسبرا” معركة ناعمة على صعيد السمعة الأخلاقية. |
![]() جراح الفقد في غزة |
(٣) |
غزة الشعور |
قبل ثلاثة عشر عاما وتحديدا عام ٢٠١٢م؛ كتبت مقالا ضمن سلسلة رمضانية عنونته (جرح الفقد.. من يداويه؟!)؛ كان المقال عن خطة علاجية استلهمتها من القرآن لمواجهة فقد من أحببناهم من الأموات؛ وكيف أن هذا الفقد الممتد لن يهدأ قبل أن نتجاسر ونحتويه، ولم يخطر ببالي حينها أنه سيتجاوز قراء السعودية، لكنني تفاجأت بإحداثيات المدونة تشير إلى أن ثاني جمهور كان من الولايات المتحدة الأمريكية! ثم علمت أن بعض الصحف العربية والمراكز الثقافية هناك كانت تنشر مقالاتي في الصحة النفسية ضمن محتواها؛ وقبل أن أحتفي بهذا الوصول؛ بدأت تتوافد لي رسائل من غزة؛ فقد علمت أن ذلك المقال انتشر ابتداء بين الأهالي بعد عملية (عامود السحاب ) التي راح ضحيتها عدد منهم؛ وعاد للانتشار في عام ٢٠١٤م في عملية (الجرف الصامد) التي مات فيها أكثر من ٢٢٠٠ فلسطيني؛ منهم ٥٠٠ طفل! |
وما أن توفي والدي رحمه الله في حادث مروري في إبريل ٢٠١٤م؛ وكان حادثاً صادماً ارتجت له قلوبنا، إذ وقفت ذاهلة في مغسلة الموتى حينها وأنا أتأمل وجهه المشرق في الوداع الأخير دون أن أكون قادرة على الخروج من الغرفة مخافة أن أواجه هذا العالم بدونه! فلما أخرجتني المرأة المغسلة بعد إلحاح؛ عدت للمنزل فجاءتني امرأة معزية واحتضنتني بشدة؛ ثم قالت: لن أوصيك بوصية أكثر من أن أنصحك بأن تعودي للمقال الذي كتبتيه عن (جرح الفقد)؛ فالمقال الذي داوى جراح أهل غزة لن يعجزه أن يداوي جراحك! |
انتهت حكايتنا عن غزة؛ لكن لم تنتهي حكاية غزة؛ وسنتحدث عن جرح الفقد ووحشة الأماكن بعد من فقدناهم والعلاج لكل هذا في تدوينتنا القادمة -إن شاء الله- |
—— |
ودمتم؛ |
كتبته هند عامر |
يوليو ٢٠٢٥ م. |
التعليقات