نشرة سرد - العدد #4 في حضرة الفقد تتنحى كل اللوائح

13 يوليو 2025 بواسطة هند عامر #العدد 3 عرض في المتصفح
أحيانًا، تمرّ بنا مواقف في العمل الإداري لا تُلقن في دورات القيادة، ولا تُدون في أدلة السياسات، بل تُعاش بكل ما في القلب من تعاطف، وتشعر فيها أنك لست مُخير في مساعدة أحدهم بل مُلزم؛ وكانت تلك المكالمة الصادمة بداية أحد تلك المواقف.

 من العاصمة الرياض ستكون حكايتنا؛ ولا أخفيكم، أنني لم أكن مستعدة لما سأسمعه في ذلك الاتصال، لكن تلك النبرة الذاهلة، و العبارات التي حاول صاحبها أن يتماسك وهو ينطقها بما بقي فيه من جلد، زلزلتني وجعلتني أتوقف عن الردود التقليدية؛ وأنصت بهدوء لأحل لغز هذا الصوت المتحشرج.

رنّ الهاتف، و كأي يوم عمل عادي، بادرت بالرد فقد كنت مسؤولة في أحد المجمعات التعليمية الشهيرة؛ و مكلّفة باتخاذ بعض القرارات المتعلقة بطالبات المرحلة الثانوية في ذلك المجمع، وكان بعض الإخوة في الإدارة الرجالية ينصحون الأمهات وأولياء الأمور بالذهاب لي في بعض الحالات الإنسانية، فأحتاج للتحقق وتوضيح ذلك للإدارة العليا،  ورغم أنني لم أطل المكوث في ذلك المكان لكن صوت الرجل الذاهل في الجهة الأخرى من ذلك الاتصال، كان مُحمّلًا بحزنٍ لا يُنسى، وطلبًا لا يُرَد.

-قال بصوت مخنوق: أنا فلان والد الطالبتين فلانة في المرحلة المتوسطة وفلانة في المرحلة الثانوية.

-بادرته: أعتقد أن ثمة خلل في الهاتف الذي تكلمني منه، فأنا بالكاد أسمع صوتك.

وما أن رفع صوته حتى ذهلت من صوته المتحشرج، والذي يكشف حجم الألم؛ مع محاولته عدة مرات إخفاء عبرته!

-تظاهرت أني لم أتنبه وسألته: ماهي المشكلة؟

-أجاب: نقلت ابنتي التي تدرس في المرحلة الثانوية لمدرسة مجاورة لمنزلنا قبل ثلاثة أسابيع، وحينما حاولت إعادتها اليوم لتكون مع صديقاتها في مجمعكم ويساعدنها، قالوا لي أن مقعدها ذهب لغيرها وأن اسمها أضحى في القائمة السوداء.

-قلت: أنت تعي حجم المنافسة على مقاعد الدراسة في المجمع التعليمي رغم رسومه المرتفعة، وأن من ينال فرصة ثم ينسحب يوضع في قائمة المنسحبين بحسب اللوائح، لكن أخبرني: لماذا تراجعت عن نقلها؟

بدا وكأنني ألقيت بقنبلة لا سؤال؛ حاول استعادة رباطة جأشه وأجاب:

كنت قد نقلتها حتى تستطيع العودة مبكراً للمنزل لرعاية إخوتها الأطفال، لأن أمها كانت في العناية المركزة.

توقف هو لوهلة؛ وشعرت أنا أنني ملزمة بالصمت؛ ثم عاود الكلام قائلاً: لكن الآن لا نحتاج أن تعود للأطفال.

حاولت أن أستفهم بتردد: هل أمها خرجت؟ 

فجاءني الرد الصاعق: بل ماتت.

شعرت بذهول؛ وأبعدت الهاتف عن إذني؛ ولحقتني رجفة مؤقتة من وقع الخبر على مسمعي، ثم تجاسرت وقلت: عظم الله أجرك وغفر لزوجتك وجبر كسرك وكسر أطفالك، كيف من الممكن أن أساعدكم لتتجاوز الأسرة هذا المصاب؟

قال بعجز: أعيدي ابنتي للمجمع، فمنذ أن فقدت صديقاتها المقربات وحالتها النفسية تتردى أكثر، والآن ستحتاج بعد هذه الصدمة لهن ليساندنها.

-سألته: متى ماتت والدتها؟

أجاب: اليوم فجراً، ومعي تقرير طبي أولي يثبت.

-قلت: دع عنك الإثبات؛ هل أخبرت الفتاتين عن وفاة والدتهن؟

-رد بصوته المخنوق وهو يفقد مابقي من تجلد: لم أستطع إخبار أحد.

بدا لي أنه غير مصدق لموت زوجته حتى الآن، وأنه يحاول فعل أي شيئ، للهرب مما ينبغي له فعله.

قلت: حسناً؛ اعطني اسم ابنتك التي في المرحلة المتوسطة، ولا تحمل هم إخبارها فستتولى المرشدة الطلابية  والطبيبة إبلاغها، وإن شئت أحضر شقيقتها الكبرى ونحن نتولى أمر إخبارها أيضا.

-التقط أنفاسه ورد قائلا: والله لا أنسى لك هذا.

-قلت: أعط التقرير الذي معك للحارس، ودع أمر إعادتها علي -بعد الله-، واذهب الآن وأخبر أهلك وأهلها، وثق أن الله لن يضيع أطفالك و لن يضيعك.

-كرر شكره بصوت منهك وهو يردد: الله يوفقك، الله يوفقك.

أنهيت الاتصال وأرتميت على كرسيي وأطلقت العنان لدموعي، بكيت وبكيت وبكيت وبكيت حتى هدأت؛ ثم تجاسرت وذهبت لمديرتي وحدثتها بما كان، وقلت لها:

 هنا وجب ترك اللوائح جانباً والعمل بروح النظام؛ فوافقت مباشرة على إعادة الفتاة للمجمع، ووقعت لها استثناء من كل الاشتراطات؛ ثم تواصلت أنا مع المرشدة وأخبرتها؛ فوعدتني خيراً.

ثم مرت الحكاية، ومضت الأعوام، وخرجت أنا من ذلك المجمع؛ وكان هناك تطبيق يدعى: (Ask me)؛ يعطي الفرصة للمجهولين ليبعثوا لي بما لديهم؛ تفاجأت بشخص يبعث لي برسالة طويلة يذكرني فيها بما حدث وأن حضوره ذلك اليوم ودعمنا له في ذلك المجمع جعله ينهض ويتجاسر ويتجاوز الفاجعة، ويبشرني أن الله اللطيف لم يضيعه ولم يضيع أطفاله.

رسالتها في ذلك التطبيق أكدت لي أنه حين تَرجُح كفّة الإنسان، ندرك أن بعض القرارات لا تُؤخذ من جدول الأعمال، بل من عمق الضمير، فأولئك الغرباء العابرين؛ الذين ينهكهم التعب، ويفتّت أرواحهم الفقد، لا نعلمهم كلهم، لكننا نعرف يقينًا أنهم بيننا -لأننا أحياناً  نكونهم-؛ فلكلٍّ منا وجعه المخبوء، وابتلاؤه المؤجل، وليس أقل من أن ندعو الله دائما  أن نكون لهم بردًا وسلامًا، ولا نتحول لروبوتات تطبق الأنظمة التي وضعت لترتقي بالناس بما يؤذي الناس.

ودمتم؛؛

كتبته لكم: هند عامر.

م. طارق الموصللي1 أعجبهم العدد
مشاركة
نشرة سرد البريدية

نشرة سرد البريدية

سرد، نشرة تمضي فيها هند عامر إلى عمق الحكايات، لا لترويها فحسب، بل لتُصغي إلى ما بين سطورها؛ هناك حيث تتشكّل البصيرة، ويتهذّب الشعور، ويتجه السلوك نحو وعيٍ أعمق. ففي كل قصة مرآة، وفي كل سرد سؤالٌ يباغتنا: هل تكفي حكاية لتغيير مسار حياة؟

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة سرد البريدية