سرد البريدية 3 - هكذا كتبت المقال الياباني |
5 يوليو 2025 • بواسطة هند عامر • #العدد 2 • عرض في المتصفح |
هل سبق أن فُتِنتَ ببلد أو حضارة لسنوات، ثم قُدّر لك أن تعمل مع أبنائها وتلامس الحلم عن قرب، فإذا بك تُدهش من الجانب الآخر من الصورة؟ هنا تجربتي مع اليابانيين، ومع حضارة طالما سكنت إعجابي، حينما قُدّر لي أن أكتب في صحفهم، وأرى ما جعلني أعود أدراجي.
|
|
كان ذلك قبل عدة أعوام، وكنت حينها أُنهي مرحلة الماجستير في الإعلام الرقمي، وأعمل في مركز أبحاث دولي، إلى جانب ممارسة شغفي بالكتابة الأدبية في إحدى الصحف. |
في أحد الأيام، خرجت من إحدى المحاضرات وقررت أخذ استراحة قصيرة وتناول قهوتي قبل العودة إلى المنزل، فتفاجأت برقمٍ غريب يتصل بي. وبخلاف عادتي، رددت. |
كانت امرأة تُدعى فاطمة، عرّفت بنفسها، وأخبرتني أنها من قارئات مقالاتي، وأنها حصلت على رقمي من صديقة كاتبة تعمل في صحيفة سعودية، و أنها وسيطة لتربطني بشخصية أخرى لديها عرض عمل، رحّبت بها وسألتها عن الطرف الآخر. |
قالت إنها فلانة بنت فلان، امرأة تتقن اللغة اليابانية ومتزوجة من رجل ياباني مسلم يعمل سفيرًا لليابان في إحدى الدول، وأن السفير وزوجته بحاجة إلى أمرٍ معين، ويؤمنان أنني الأنسب للمهمة. |
وافقت على مضض، وبدأت أبحث عن أي إجراءات رسمية تتعلق بمثل هذا التعاون، حتى إنني تواصلت مع السفير السعودي في اليابان آنذاك، فأجاب على تساؤلاتي بتواضع شديد، وحفّزني لمساعدة السفير وزوجته. |
ثم اتصلت بي زوجة السفير الياباني، وقدّمت نفسها، وحدثتني عن مشروع سيُقام في اليابان، كان مشروعاً ثقافياً يقدّم شرحًا مبسطًا للشعب الياباني عن ردود المسلمين تجاه الحملة الدنماركية ضد الرسول ﷺ. |
وتضمن المشروع عدة مسارات، أحدها ملتقى يتحدث عن الرسول محمد ﷺ كشخصية عظيمة، والآخر حملة مرافقة في الصحف، وكانوا بحاجة إلى كاتب بطابع أدبي خالص، يكتب عن الرسول ﷺ بأسلوب قابل للترجمة إلى اليابانية، حيث سيُنشر المقال في خانة الإعلانات في الصحف المتفق معها! |
سألتها: لماذا رشّحتموني أنا لهذه المهمة؟ |
فقالت: طلبنا من صديقتك الكاتبة أن ترسل لنا عدة نصوص لكاتبات سعوديات، وأرسلت، ووجدنا في نبرتكِ سلاسة ووضوحًا، مما يجعل كتاباتك قابلة للترجمة. |
وافقت مرةً أخرى على مضض، وطلبت منها أن تُمهلني لأفكر في الطريقة المناسبة، وبدا لي أنني أمام تعاون من نوع جديد، تُحيط به تحديات عدّة للوصول إلى القارئ الياباني وتحقيق غاية المقال. |
فهذا الشعب لديه ردة فعل حادّة تجاه الأديان، كما أن التجارب السابقة لعرب كتبوا في الصحف اليابانية لم تسعفني كثيرًا. لم أجد سوى تجربة الكاتب محمد حسنين هيكل في كتابه (المقالات اليابانية)، لكنها مقالات سياسية لا علاقة لها بما أنا بصدده. |
قرأت كثيرًا، وفكّرت، ثم قررت العودة إلى المربع الأول، فلن يعطيني مفاتيح الوصول إلى القارئ الياباني مثل السفير وزوجته، فاتصلت بها وقلت: حدّثيني عن المجتمع الياباني من وجهة نظرك؟ فانطلقت تتحدث عن انفصال مريع في حياة الفرد الياباني: |
حياة نهارية ظاهرية، يعمل فيها الإنسان حتى الاستنزاف، وقد تحوّل فيها العمل إلى عقيدة تُستعبد فيها الذات باسم دعم الاقتصاد. |
وفي المقابل، هناك حياة ليلية باطنة، غارقة في اللذّات ومحاولات التعويض عن فراغٍ إنساني وروحي، خاصة لدى الأجيال الجديدة التي لم تعد تؤمن بالمبادئ الروحية التي يؤمن بها كبار السن. |
سألتها: وماذا عن المسلمين اليابانيين؟ |
قالت: من ملاحظتي، أكثرهم نساء، اعتنقن الإسلام في البداية لارتباطٍ عاطفي بشبان مسلمين. فكان الإسلام بالنسبة لهن طريقًا للارتباط، ولعل ذلك من لطائف رحمة الله بهن. |
قلت: وكيف تلقّين الدين وتعلّمنه؟ |
قالت: اطلعت على مركز تعليمي، ووجدت أنهن يتفاعلن مع دروس الفقه أكثر من دروس العقيدة، كانت فكرة وجود علاقة بينك وبين إله في السماء، عصية على الفهم والتطبيق لديهن! |
سألتها: وأنتِ، كيف تنظرين إلى شخصية النبي محمد ﷺ؟ |
فبدأت تتحدث حديثًا عذبًا، عميقًا، مؤثرًا، عن الرسول ﷺ، فاستمعت لها في صمتٍ تام، مستغرقةً في تلك المعاني التي كانت تحاول إيصالها، أخبرتني أنها جابت بلدانًا عديدة، ورأت حضاراتٍ متنوعة، لكن الحضارة التي بناها محمد ﷺ لم تتكرر، وهذا القائد العظيم لم يتكرر أيضاً. |
أنهيت مكالمتي معها وأنا في حالة من السمو الروحي، شعرت معها أنني أحلّق عاليًا، ثم تأملت خلاصة كل ما وصلت إليه، فوجدت أن المدخل الأمثل لهذا المقال هو: (القيم الأخلاقية). |
لأن لغة القيم لغة مشتركة بين الشعوب، والشعب الياباني يقدّرها كثيرًا، وقد استلهمت هذا المدخل من قول النبي ﷺ: “إنما بُعِثت لأتمّم مكارم الأخلاق.” |
فكان عنوان المقال: |
倫理の帝国 (Rinri no Teikoku) |
ويعني: إمبراطورية القيم الأخلاقية. |
أما عمّا تحدث عنه هذا المقال… |
فلعلّي أتركه لتدوينةٍ قادمة. |
فقد أطلت عليكم هنا. |
دمتم بخير،، |
التعليقات