نشرة همّام البريدية - العدد #5

12 مارس 2025 بواسطة همّام #العدد 5 عرض في المتصفح
الحب الصادق

أرقد على فراشي الأبيض، أنتظر قدري المجهول، أو ذاك الذي تحوفه الظنون الحسنة، وأتأمل كيف أنني معدوم الحرية فوق سرير أبيض، مجبر على سماع تلك الرنات المتكررة على مسمعي، حتى كادت أن تكون سببًا لموتي، لا من مرض أخشاه...

يدخل سرير آخر إلى الغرفة، ومن عليه له أنين، يرافقه رجل وامرأة، يستقبلانه بقلوب مفعمة بالدعاء والرجاء 

الرجل يحمد الله على سلامته، والمرأة تتفقده، تواسيه بكلمات الحب، وعيناها تحتضنه."حمدًا لله على سلامتك، يا ولدي...

"فأدركت أنهما والداه

يزداد أنين الرجل، وتزداد معه دعوات أمه المسكينة، أما والده، فيتسلح بالشدة، لكن الحزن يأكل منه ما يأكل

لله ما للأباء من شدة خداعة، وقوة صنّاعة!يتصنعون قسوتهم لمصلحتنا، ثم يكونون أسرع من يعطف، وأشد من يحنّ...

نام ذلك الرجل، أو ذاك الطفل في أعين والديه، نومة هنيئة، تحفه الدعوات، وتأمنه الآيات.أما أنا، فأراقب وأستمع، وأقول لنفسي:

"الليلة، أنا على موعد مع مشاعر لا توصف، وليس الليل ببعيد..."

---

حان موعد إفطار الصائمين، وأقبل والد هذا الرجل يحمل قهوة وتمراً، وكأنه يحتفل بسلامة ابنه، فشاركناه الفرحة والدعوات

ثم جاء موعد الزيارة...

الزيارة!

وكم من مريضٍ انقطع عنه أحبابه، ومن كان يؤانسه!

ترى ، حين كان في فتوة شبابه وصحته، هل كان يخطر بباله أن ينفرد يومًا على هذا السرير الأبيض؟

وكم من أب كان يلاعب ابنه، يعلم شدة حاجته إليه، يختبئ عنه اثناء اللعب، فلا يلبث أن يغيب حتى يخرج إليه،

لا تخف انا معك

"بني، اخرج، فقد طال اختباؤك، وزاد خوفي عليك من سوء يصيبك أو مضرة تعتريك..."

لكن الايام تخبره أنه غياب لا اختفاء ..

وكم من أسرار تحملها الزيارة، لا نعلمها...

---

ارتفعت الأصوات، استيقظ الطفل المدلل من نومه، وانهالت عليه الضحكات والعبارات اللطيفة

"بني، لقد خفنا عليك..."

ثم دخل رجل إلى الغرفة، بصوت جهوري قائلا:"أين تركي؟"فعلمتُ أن الرجل الذي يرقد على جناحي والديه، اسمه تركي..."

تركي، أطفالك قادمون، وهم في شوق إليك!"

ماذا؟! أطفال!

وكل هذا العطف والخوف، على رجل له أطفال؟

لله ما للوالدين من عطف لا ينفد، ولو كنت شيخًا...

---

دخل أطفال تركي، تكسوهم رهبة المكان، والخوف من منزلٍ جديد

"أبي، الحمد لله على سلامتك..."

تداخلت أصواتهم بين موقف في طريقهم إليه، وحمدٍ على نجاته

"قم، واحتضن والدك، ولكن احذر، فهو متعب..."

انتهت الزيارة، وحان موعد الرحيل...

لكنه رحيل يعقبه بلا شك لقاء

سلامٌ أخير، وعناقٌ حميم، لكنه ليس الأخير...

سالَت دموع الطفل على كتفي والده، حبًّا وشوقًا وخوفًا من وداع مزعوم

"بني، ما الذي يبكيك؟

وأنا بجانبك، ضلوعي ملتصقة بضلوعك، ودمي من دمك؟

بني، لا يفرقنا إلا الموت... وها أنا قد نجوت منه!

""أبي، أحبك..."

خرج الأطفال واكتسح السكون المكان...

لم يبقَ إلا تركي، وأنا...

ثم سمعتُ نغمة أعرفها...

لقد عزفتها من قبل...

تركي يبكي...ما عساه يبكي، وقد زاره قطعةٌ منه واللقاء حاصل لا محالة، والفراق ساعات، لا زمن يعتريه الألم...

وفي همسٍ بينه وبين نفسه و أنا، قال:

"وأنا... أحبك، يا ولدي..."

مشاركة
نشرة همّام البريدية

نشرة همّام البريدية

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة همّام البريدية