مآلات الجهل باللَّه ﷻ وغياب المعرفة به.

19 مايو 2025 بواسطة محمد جمال بخيت #العدد 4 عرض في المتصفح

من أشدِّ غُربة من الإنسان في هذه الدنيا، إذ كلُّ ما فيها كأنَّ طينته عُجِنت مع الكدر والغُصَص، فلا تستقيم حياة بغير ما يُظهِر نقصَها وقِصَرَ أمدِها وعجزَ الإنسان عن الإحاطة بها، فما أضعفنا بني الإنسان في هذه الدنيا مقارنةً بما حولنا من مخلوقات عظيمة كالسماء والأرض والشمس والقمر، وما أضعفنا في أنفسنا وأشد عجزنا عن الصبر والتخلي عن احتياجاتنا؛ فلا يقوى أحدنا على الاستغناء عن أنفاسِه استنشاقًا لهذا الهواء، ولا يصبر أحدنا جرَّاء فقد الطعام والشراب، ولا يُجالِد الواحد منّا سِنةَ التعب ورقدة الموت الصغرى، فما أشد احتياجنا لمن يدبر أمرنا ويسوس حياتنا ويتولانا برحمته وعونه وفضله وكرمه!
وليس ذلك إلا ربَّ العالمين سبحانه وبحمده، الذي منه الإيجاد والإمداد والإعداد، ولا حول لنا ولا قوة ولا شيء إلا به سبحانه وبحمده.فما أعظم فقرنا وأعرق مسكنتنا! وقال مرة شيخنا: «ومن أعظم ضعفًا، وأعرق في المسكنة، وأرسخ في الفقر من مخلوق لا يملك ضَرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، ثم هو يكابد صولة نفسه، وتربُّص العدو به، والموت يَرصُده، وله موقف تُعرض عليه فيه أعماله؟!»وارحمتاه للإنسان! قبضة من تراب لولا فضل الله ورحمته ما كان ليكون شيئًا!» ا.هـلولا فضله ورحمته لهلكنا، وقد قال هذا النبي ﷺ والصحابة رضوان الله عليهم كلهم شهود: «إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل»!
أيُّ معرفة هذه التي تورث تجرُّدًا كهذا، وتعريًا عن كل حال وسبب! لا شك أنها معرفة شريفة عالية، تلك التي تعلو بصاحبها عن مشاهدة كل أحد إلا الأحد الصمد سبحانه وبحمده! فيبقى في مشهد الوحدانية صامدًا إليها مكتفيًا بها لا قصد ولا مراد له سوى مراد صمده وربه ومن به قوام وجوده وحياته وأمنه وأمانه ودوامه سبحانه وبحمده.
هذه المعرفة بالإله الحق سبحانه وبحمده هي التي ينال بها الترابي رتبة عند رب العالمين، وتكسب عمره الفاني خلودًا وحبورًا في دار القرار، وهي الأساس الأصيل، والمراد الأعلى والغاية العظمى التي يحيا الإنسان لأجلها، بل كل موجودٍ ظالمٌ لنفسه خاسرٌ إن غابت عنه وتاه عنها، وقد بين شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله ورضي عنه هذا الأصل فقال: «معرفة الله وتوحيده وعبوديته وحده والإنابة إليه والتوكل عليه، وإخلاص العمل له ومحبته والرضا به، والقيام في خدمته هو الغاية التي خُلق لها الخلق، وثبت بها الأمر، وذلك أمر مقصود لنفسه» وبين بعدها رضي الله عنه أنه ما من نهيٍ وتحريم إلا كانت هذه الغاية سببًا له وداخلةً فيه، فقال: «والمنهيات إنما نُهي عنها لأنها صادة عن ذلك أو شاغلة عنه أو مفوِّتة لكماله؛ ولذلك كانت درجاتها في النهي بحسب صَدِّها عن المأمور وتعويقها عنه وتفويتها لكماله، فهي مقصودة لغيرها والمأمور مقصود لنفسه» ا.هـ.
فما من ظلمٍ يُلامِسُه الموجود أشد من نسيانه لموجده وخالقه وفاطره، أن يبتعد عنه ويخالفه ويفارق نعيم عبوديته وسؤاله ومناجاته والاستعانة والاستغاثة به ودوام الخضوع والانكسار والتذلل له والتعظيم والافتقار!
ولذلك كانت ثمرةُ هذا النسيان، والجهل بهذه المعارف العِظام = أن يُدخل الإنسان نفسه في مسلك الإنكار والتكذيب، والانتساب لجماعة الإفساد والتخريب، فينتهج سبيل المجرمين، والضالين المتجبرين.
وهذا كله سببه وأساسه = الجهل!وهذا الجهل المقصود.. لا ذاك الذي يتعلق بالمحسوس المشهود، فإن النبي ﷺ بُعث في زمانٍ كانت فيه الحضارة الشرقية والغربية قد قطعت شوطًا عمرانيًا ومدنيًا لا يزال عصرنا يُشيد به ويجدد انبهاره منه، فلم يُبعث ليخبر قومه بافتقارهم إلى أصحاب هذه الحضارات، ولا للتطبيع معهم، بل على عكس ذلك تمامًا، كما قال الشيخ إبراهيم السكران: «فقد أخبر الله ﷻ نبيه ﷺ عن القيمة المنحطة في ميزان الله -عزَّ وجلَّ- لكل تلك المدنيات التي عاصرت بعثته ﷺ» وهل اكتفى الوحي الإلهي بهذا فقط؟ بل «وأخبرنا سبحانه وبحمده أنه يبغضهم ويمقتهم ويكرههم جل جلاله!» ا.هـ.فما وزن أسوار الطين وأهرامات التراب أمام عبودية رب الأرض والسموات؟ وهي التي خُلق الخلق لأجلها فكانت غاية وجودهم وسبب نشأتهم، فما قيمتهم إن أهملوها وضيعوها وكانوا منشغلين عنها بالفاني الزائل!
ولو أردنا التبصر في دواخل هؤلاء، وما انطوت عليه أفكارهم = لأبصرنا فراغًا هائلًا، وقحطًا مُجْحِفًا وهجيرًا لاذعًا داخل هذه النفوس، هذه النفوس التي كذبت الرسل واستهزأت بأتباعهم وأخبارهم.. هي نفوسٌ لم تلاقِ ظلمانيتُها أنوار الوحي، ولم تجد إلا يد الشيطان امتدت إليها فأمسكت بها وجرّتها خلفه.
هي نفسها النفوس التي تمر عليها الآيات، والدلائل في الأنفس والآفاق، ولكنها استمرت في غيِّها مكذبةً بالمبدأ والمعاد، وما هذا التكذيب والإنكار إلا جهلٌ بالله الواحد القهار!
لذلك نجد الحق سبحانه وتعالى بعد عرضٍ لمشاهد الافتراق، والحضور والحبور، نجده سبحانه وبحمده يُنَزِّه نفسه ويقدس ذاته ﷻ مُثبتًا له كل كمال، ونافيًا عنه كل نقص وعجز توهمته نفوس الظاهريين (ظاهرًا من الحياة الدنيا) الغائبين عن مشاهد الجلال والكمال والجمال والعظمة، فكان هذا التوهم سببَهم لظن العجز بعدم البعث، وظن إخلاف الوعد والوعيد الشديد، وأن ما هم فيه ليست وراءه حكمة ورحمة وفضل ومصلحة وعدل!
فسبحان الله رب الأرض رب العرش العظيم، سبحان رب العالمين، سبحانه لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، له الحمد كله وإليه يرجع الأمر كله.. فهو سبحانه: «أحقُّ مَن ذُكِر، وأحقّ من شُكِر، وأحقّ من عُبِد، وأحقّ من حُمِد، وأنصَر من ابتُغِي، وأرأف من ملَك، وأجود من سئلَ، وأوسع من أعطى، وأرحم من استُرْحِم، وأكرم من قُصِد، وأعزّ من التُجئ إليه، وأكفى من تُوُكِّل عليه أرحَمُ بعبده من الوالدة بولدها، وَأشدّ فرحًا بتوبة التائب من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة، إذا يئس من الحياة ثم وجدها.وهو الملِك لا شريك له، والفرد فلا ندّ له. كلّ شيء هالك إلا وجهه. لن يُطاع إلا بإذنه، ولن يُعصى إلا بعلمه. يُطاع فيَشْكرُ، وبتوفيقه ونعمته أطِيعَ. ويُعصَى فيغفر ويعفو، وحقُّه أُضِيعَ.فهو أقرب شهيد وأجلّ حفيظ. وأوفى وفيّ بالعهد، وأعدل قائم بالقسط. حال دون النفوس، وأخذ بالنواصي، وكتب الآثار، ونسخ الآجال. فالقلوب له مُفضية، والسرّ عنده علانية، والغيب لديه مكشوف، وكلّ أحد إليه ملهوف.عنَتِ الوجوه لنور وجهه، وعجزت القلوب عن إدراك كنهه، ودلّت الفِطَر والأدلّة كلّها على امتناع مثله وشبهه. أشرقت لنور وجهه الظلمات، واستنارت له الأرض والسماوات، وصلحت عليه جميع المخلوقات. «لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام. يحفظ القسط، ويرفعه. يُرفَع إليه عملُ الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل. حجابه النور، لو كشفه لأحرقتْ سُبُحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» ا.هـ.
والحمد لله رب العالمين.

مشاركة
بدايات معرفية

بدايات معرفية

نشرة مخصصة لمشاركة المحتوى المعرفي في مجالات العلوم الإسلامية والجوانب الاجتماعية والحياتية.

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من بدايات معرفية