أنوار الاستغفار: فاستقلتك منه فأقلتني!

6 يونيو 2025 بواسطة محمد جمال بخيت #العدد 10 عرض في المتصفح
من داخل أغوار النفس الجاهلة الظلومة، نورّ يضيء الطريق للتائبين

تيسر بعون اللَّه وفضله، ومنِّه وكرمه: كُتْيبَة صغيرة موجزة مختصرة في محاولةٍ لبيان معاني هذه الاستغفارات بعد جلسة تدارسية مع أحد أحبائي حول المعاني التي تشير إليها لكي تعين القائل لها على الاعتبار بها، فقُسمت إلى عدة معالم، هذا هو أولها:

المَعلَمُ الأول: «اللَّهُمَّ إني أستغفِرُك لكلِّ ذنبٍ خفيٍّ خَفِيَّ على خَلْقِكَ ولم يعزُبْ عنكَ، فاستقلْتُكَ منه فأقلْتَني، ثم عدتُ فيه فسترْتَه عليَّ»
يبدأ هذا الدعاء البليغ بمناجاةٍ تلامسُ أعمقَ زوايا النفسِ البشريةِ الجهولية، مُفتتحًا بطلبِ الاستغفارِ من: «كل ذنبٍ خفيٍّ، خفيّ على خلقك ولم يعزب عنك»
وهذا الافتتاحُ ليس مجردَ صيغةٍ دعائيةٍ تقال بِلا تبصر بأغوارها التي تكشفها، بل هو إقرارٌ عميقٌ بمبدأ المراقبةِ الإلهيةِ الشاملةِ المحيطة بكل ما دق وخفي، تلك التي لا تُفلتُ منها شاردةٌ ولا واردةٌ إلا وهي في كتاب!
أحيانا يغيب عنا هذا المشهد فيجد الواحد منا في نفسه محاولة إخفاء لبعض الأفعال والتصرفات -التي يعلمها كل واحد منا يقينا في نفسه- عن أعين الناس وملاحظاتهم، وأحيانا قد نتجاهلها متظاهرين بالنسيان بقصد أو دون قصد، لكن اللافت للنظر أنه رغم هذه المحاولات الضعيف منّا للتجرُّد من تبعات الأوزار والمخالفات هناك حقيقة تظل قائمةً دائمة، وهي: أن كل تصرفاتنا وأفعالنا لا تخفى أبدًا عن عِلم اللَّه تعالى المحيط بكل شيء!.
فصل: الذنوب الخفية وأعماق النفس:والمقصودُ بالذنوبِ الخفيةِ في هذا الدعاء، مقصودٌ أوسعُ بكثيرٍ من مجردِ الأفعالِ التي تُرتكبُ في الظلامِ بعيدًا عن أعين المخلوقين!ويمكننا بيان هذا ضمن ثلاثة جوانب تشملُ في جوهر هذه الذنوب الخفية، وهي:
 ١. نوايا القلب وخواطره: فالقلب يُعدّ مكمنَ الإيمانِ والكفرِ، والصلاحِ والفسادِ، فكم من خاطرٍ سيءٍ مرّ بالنفسِ، وكم من نيةٍ غيرِ صالحةٍ كامنتٍ في الصدرِ، مثلَ: الحسدِ الذي يُفسدُ الأعمالَ ويُحرقُ الحسناتِ، أو الغلِّ الذي يُقسّي القلوبَ، أو سوءِ الظنِّ بالآخرينَ، أو الكبرِ الذي يُبعدُ الإنسانَ عن الافتقار للَّهِ ﷻ والتواضع للخلقِ.هذه كلها معاصٍ باطنيةٌ قد لا تترجمُ إلى أفعالٍ ظاهرةٍ يراها الناسُ، لكنها لا تخفى على البصيرِ بكلِّ شيءٍ العليم بكل حال.
والذي يورثه هذا عمليا عندما نتحقق بمعرفة أن عِلم الحق سبحانه وتعالى محيط شامل لا يعذب عن شيء: تذكيرٌ لنا بأهمية التوحيد في المقصد والإخلاص للَّه ﷻ الواحد الأحد الصمد، الذي ما أتى للإنسان خير إلا منه -سبحانه وبحمده- ولا كان منه عمل وسعيٌ إلا بإعانته وتوفيقه عزَّ وجل، وعندها يُفلس العبد من العمل لأبناء جنسه من نسل التراب وأصل النطفة، ويكون قلبه معمورا بأنوار المعاملة العليا متنعمًا بوارداتها وأحوالها.
٢. الأفعال التي تُرتكبُ سرًا: كما تقدم قد يُقدمُ الإنسانُ الفقير إلى ربه.. على فعلٍ مُخالفٍ للمراد (الشريعةِ) في خلوتِه، بعيدًا عن رقابةِ الناس وتعييرهم، قد يكونُ غشًا في معاملةٍ لا يشهدُها أحدٌ، أو أخذًا لِما ليس بحقٍّ دونَ علمِ أحدٍ، أو النظرَ إلى ما حُرّمَ في الخفاءِ.هذه الأفعالُ وإن غابتْ عن أنظارِ الخلقِ، فإنها لا تغيبُ عن علمِ الخالقِ سبحانه وبحمده!
فالذي يُحدثه هذا الدعاء هنا هو تثوير مقام الشهود في العبد، فيحثه هذا على مراقبةِ نفسِه في السرِّ كما يُراقبُها في العلنِ، لأنّ معبوده وسيده ومولاه ومحبوبه الأعلى مطلعٌ عليه ناظر إليه، لا تخفى عنه خافية من حال العبد، سبحانه وبحمده.
٣. الذنوبُ المنسيةُ: قد يرتكبُ أحدنا ذنوبًا ثم ينساها بمرورِ الوقتِ، أو تُشغلُه الدنيا بما فيها من مساعٍ وأعمال وأنشطة يومية عنها. هذه الذنوبُ المنسيةُ ما موقعها من سجلات العبد وأوراق السادة الكتبة؟!الحقيقة التي لا غبار عليها أنها لا تزالُ موجودةً في صحيفتِه، واللَّهُ تعالى وحدهُ يعلمُها ويحاسبُ عليها.فالاستغفارُ منها في هذا الدعاء إذن يُعدُّ استغفارًا شاملًا يُغطّي كلَّ ما وقعَ من العبدِ، سواءٌ تذكّرهُ أم نسيهُ، وهذا قليل مما لا يُحد من أنوار النبوة، وقد اتفقنا أن كل ما يقال هنا ليس إلا قطرة من بحر أنوار جوامع الكلم عنه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فكله فرع عنه ويرجع إليه.
فصل: علم اللَّه ﷻ المطلق وشموليته:قوله: «خفيّ على خلقك ولم يعزب عنك» هي جوهرُ هذا المعلمِ. فكلمة "عزبَ" تعني غابَ وخفيَ، وهذا التأكيدُ في الدعاء بها يضعُ الإنسانَ أمامَ حقيقةٍ لا مفرّ منها وهي: أنّهُ مكشوفٌ تمامًا أمامَ خالقِه الجليل سبحانه وبحمده.. فهذه معرفة مستفادة من هذه الكلمة، فمن جدد مطالعتها وتذوقها لا شك أنها تُورِثُ في القلبِ خشيةً وإجلالًا للَّهِ ﷻ، وتُعلي من شأنِ الإخلاصِ في التوبةِ والعبادةِ.
فما قيمةُ أن تُرضيَ الناسَ بينما أنتَ تُغضبُ خالقَهم الذي يعلمُ سرّكَ وعلانيّتك وبيده شأنك وأمرك؟ وهذا المعنى هو أحد أهم المعاني التربوية التي نحتاج بناءها في نفوسنا ونفوس أبناءنا والأجيال القادمة، لتكون أركان الإيمان راسخة في شخصيتهم.
فصل: رحمة الله الواسعة في الاستقالة والسّتر المتكررثمّ ينتقلُ الدعاءُ إلى تصويرٍ -صراحةً- مؤثرٍ لعلاقةِ العبدِ بربّهِ -سبحانه وبحمده- مُبرزًا جانبَ الرحمةِ والحلمِ الإلهيِّ العظيم. فقال:«فاستقلْتُك منه فأقلْتَني، ثم عدتُ فيه فسترْتَه عليّ».وبيان هذا المعنى من وجهين:١. «فاستقلْتُك منه فأقلْتَني»: "الاستقالةُ" هنا تعني طلبَ الإقالةِ أو العفوِ عن الذنبِ، وكأنّ العبدَ يطلبُ من اللَّهِ ﷻأن يُلغيَ أثرَ هذا الذنبِ، وأن يصفحَ عنه. وقولُ «فأقلْتَني» يدلُّ على أنّ اللَّهَ ﷻ قد استجابَ لطلبِ العبدِ وعفا عنه، مسحًا لصحيفةِ الذنبِ وأثره في كل مرة يرجع ويُنيب فيها. فهذا -صِدقًا- يُشعرُ العبدَ بقيمةِ التوبةِ وأنّ اللَّهَ جل جلاله غفورٌ رحيمٌ يستجيبُ لمن تابَ إليهِ وأناب.
٢. «ثم عدتُ فيه فسترْتَه عليّ»: هذه هي قمةُ الرحمةِ والحلمِ! فالإنسانُ ضعيفٌ بطبعهِ، وقد يقعُ في الذنبِ مرارًا وتكرارًا -كما نشاهده من أنفسنا- حتى بعدَ أن يُستغفَرَ منهُ، ومعَ كلِّ عودةٍ للذنبِ ذاتِه، فإنّ اللَّهَ ﷻ لا يفضحهُ بينَ خلقهِ، ولا يكشفُ سترَهُ عنه؛ لرحمته ولطفه به ووده له.فهذا السترُ المتكررُ ليسَ إذنًا بالعصيانِ، بل هو دليلٌ على سعةِ حِلمِ ربنا الرحمن -سبحانه وبحمده- وصبرِه على عبادِه، وفتحِ بابِ التوبةِ لهم كلما أذنبوا!
هذا المعنى يُعطي الأملَ للمُذنبِ الطامع، ويُحرّرهُ من اليأسِ والقنوطِ الذي قد يُصيبهُ لكثرةِ ذنوبِه وتكررها، فما أرحم رب العالمين الغفور الكريم، الذي فتح لنا بابَ التوبةِ وأبقاه مفتوحًا دائمًا ما دامَ عبدُه الفقير يُنيبُ ويستغفرُ ويرجع إليه فرارًا من نفسه!
#أنوار_الاستغفار

رحمَـة1 أعجبهم العدد
مشاركة
بدايات معرفية

بدايات معرفية

نشرة مخصصة لمشاركة المحتوى المعرفي في مجالات العلوم الإسلامية والجوانب الاجتماعية والحياتية.

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من بدايات معرفية