القلب الظَمآن - البحث عن اللذة المطْلقة

6 يونيو 2025 بواسطة محمد جمال بخيت #العدد 9 عرض في المتصفح

يبرز سؤالٌ لا يقلُّ أهميةً ولا عمقًا عما سبق: لماذا لا تكتفي النفس البشرية بما تملك من زينة الدنيا؟ وما سرُّ هذا الظمأ الدائم في القلب الإنساني، الذي يدفعها إلى التطلع نحو المزيد، وكأنها تبحث عن لذةٍ لا تبلغها ولا تستقر فيها، حتى ولو كانت كنوزُ الأرض بين يديها؟

لابد أن نعلم أن هذه النفس البشرية، وتلك الروح المعقدة التي أودعها الخالق الحكيم سبحانه وبحمده في جسد الطين، جُبلت على شوقٍ فطريٍّ للمطلق والكمال الذي لا يعتريه نقص. فهي وإن تعلقت بالدنيا وزينتها، وانشغلت ببريقها الخادع، إلا أنها لا تجد فيها كفايتها الحقيقية ولا غايتها القصوى!
وأن هذا الشوق ليس ضعفًا، بل هو دليلٌ على عظمة النفس التي خُلقت لغايةٍ أسمى من مجرد الاستمتاع باللذات الدنيوية الزائلة. فهذه النفس كلما حازت شيئًا، وإن كان ثمينًا ومطلوبًا وذا قيمة يلهثُ إليه الآخرون.. سرعان ما يتلاشى بريقه في عينيها، وتتطلع إلى ما هو أعلى وأكثر. 
سبحان اللَّه! دورةٌ لا تنتهي من البحث، تشبه عطشًا لا يرويه الماء المالح، بل يزيده ظمأً وشوقًا، فهذا العطش الدائم هو في حقيقته بحثٌ عن اللذة المطلقة، عن الكمال الذي لا يعتريه نقص، عن البقاء الذي لا يمسه فناء.
وهنا كانت من عزة رب العالمين سبحانه وبحمده أن هذا المطلب لا يجده القلبُ البشريُّ إلا في الإقبال على من له كل كمال وجمال وجلال.. في إقباله على من خلقه وأوجده من العدم وصار بفضله له وجودٌ وذِكرٌ في هذه الدار!الخالق العظيم سبحانه وبحمده
هذا الظمأ المتأصل في النفس هو دعوةٌ دائمةٌ لهذه النفس لتتجاوز حدود المادة، وتتصل بمصدر كل كمالٍ وجمالٍ لا يزول.
أما بغير هذا المعنى فالقلب يعيش في عالمٍ مطبوعٍ على الفناء، بينما هو يحمل في طياته شوقًا للبقاء الأبدي، فهذا التناقض الجوهري يُورث القلب لوعةً وشوقًا دائمًا لما هو خالدٌ أبديٌّ. 
فمهما نال الإنسان من متع الدنيا وزخارفها، يبقى في أعماقه شعورٌ بالفراغ، وحنينٌ إلى ما هو أبعد!
ولكن الإنسان (الجهول الظلوم) عندما ينسى هذا المعنى يرى فيه تنغيصًا لحياته، وتقييدا يظهر ضعفه وعجزه ويُرِّي احتياجه.. وفي الحقيقة هذا الشعور ليس منغصًا للحياة، بل هو حافزٌ إلهيٌّ رحماني يدفع الروح إلى البحث عن السكينة الحقيقية، وعن الملاذ الذي لا يمله القلب ولا تبلى أطايبه، وكأنه دعوةٌ للقلب ليُحلّق بعيدًا عن سجون المادة وأسوار الطين، ويتوق إلى الأنس بالقرب من خالقه البر الرحيم -سبحانه وبحمده- حيث لا نقص ولا فناء، وحيث تتجدد اللذات دون أن يعتريها ملل. 
وهذا ما يفسر لك ما يجعل القلب المؤمن يجد راحته الحقيقية في الذكر، في المناجاة، في الصلاة، في العبادة، لأنها تصله بمن حياة كل شيء بحياته، وقيام كل شيء بقيامه الحي القيوم -سبحانه وبحمده- بمصدر البقاء المطلق والدوام الأبدي.
فهذا الفهم العميق لطبيعة النفس والدنيا والوجود من حولنا يُربينا على تهذيب شغفنا، وتوجيه طموحنا الوجه الصحيح المتسق مع الفطرة والحكمة؛ فبدلًا من أن نُعلّق آمالنا كلها على ما هو دنيوي زائل، نتعلم أن نُعلّق قلوبنا بما هو أبقى وأدوم، وأكمل وأقوم، وهذا لا يعني ترك الدنيا -كما مر معنا- أو عدم السعي فيها، بل يعني أن نستخدمها كوسيلة لا كغاية، وكمعبر لا كمستقر. 
ولاشك بعدها أن من تحقق بهذا المعنى الحكيم، والمنهج القويم تتقوى نفسه على الصبر عند الفقدان، والشكر عندنا الامتنان، والرضى بكل حال كان
ونتعلم أيضا أن القناعة الحقيقية لا تأتي من كثرة المقتنيات الطينية الترابية، بل من غنى النفس بالصلة باللَّه تعالى والدار الآخرة، من الإيمان المُخبِتِ الذي يُسكن القلب وباشرت أنواره دواخله.
ونخرج من هذا بمعايير نظر تصحح لنا كثيرا من زخارف عصرنا.. فالقناعة ليست ألا تطلب شيئًا، بل أن تطلب ما لا يفنى!ويدخل في هذا كل صورة تحقق هذا المطلب، فتطيش وتتهتك بعدها معايير التراب المهترئة تلك التي تنمط الفلاح بصور تستبعد كل صاحب تمسكٍ بالدين، وإقامة له في جميع الميادين، فأين هم من هذا المعيار، وهل ما هم فيه يؤدي إلى دار القرار؟!
 وأيضًا أن ندرك أن اللذة الحقيقية المستمرة لا يمكن أن تجدها المخلوقات الفانية الزائلة -بمن فيها نحن- في هذا العالم المادي الخزفي، بل في الاتصال والوصال الدائم بمانح كل الأقوات واللذات، الواحد الأحد الرزاق، الذي منه كل إعداد وإمداد، وإيجاد وإكساب، الحيّ القيوم الوهاب -سبحانه وبحمده- الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
فهذه الحقيقة تحرر الإنسان المعاصر من قيد التنافس الدنيوي، وتُفتح له آفاقًا من الطمأنينة والرضا لا تُضاهيها كنوز الأرض، ولا زينة الدنيا بأسرها.
#صحبة_سماوية

رحمَـة1 أعجبهم العدد
مشاركة
بدايات معرفية

بدايات معرفية

نشرة مخصصة لمشاركة المحتوى المعرفي في مجالات العلوم الإسلامية والجوانب الاجتماعية والحياتية.

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من بدايات معرفية