صِلة البقاء: ملاذ القلب من سراب الوجود - (صحبة سماوية)

9 يونيو 2025 بواسطة محمد جمال بخيت #العدد 11 عرض في المتصفح



لا يجد الإنسان سكينة روحه الحقيقية، ولا تجددها الدائم، إلا فيما كان موصولًا باللَّه -سبحانه وبحمده- فهو الحيّ الذي لا يموت، وهو الدائم الذي لا يفنى، وهو الباقي الذي لا يطرأ عليه العدم ﷻ.
وكل من سواه، وكل ما في هذا الوجود من مخلوقات، فانٍ مضمحلٌ إلى زوال. وهذه هي الحقيقة الكبرى التي إن ترسخت في القلب، واهتزت لها أركانه، أحدثت تحولًا جذريًا في نظرة الإنسان للحياة والوجود، وقلبت موازينه رأسًا على عقب.
لأن هذا القلب البشري الذي يضطرب بين التقلبات ويهفو إلى الاستقرار، عندما تتشبع نفسه باليقين بأن كل ما هو دنيويٌّ زائلٌ، وأن مصير الجمال واللذة والنفوذ إلى فناءٍ محتوم، فإنه يُدرك أن تعلقه بهذه الأشياء هو محض تعبٍ وشقاءٍ لا ينتهي!
فكيف لقلبٍ خُلق للبقاء أن يجد قراره في الفناء؟ وكيف لروحٍ تتوق للمطلق أن تستكين لِما هو محدود؟ فالقلب الذي يطلب البقاء في الزائل، إنما يطلب المحال، ويُرهق نفسه في مطاردة السراب. 
وهنا تكمن السكينة النفسية العميقة؛ في تحرير القلب من عبودية الفاني، وتوجيهه بكل جوارحه وشغاف روحه نحو الباقي -سبحانه وبحمده-. 
فهذا الوصال باللَّه تعالى يُشبه الارتواء من نبعٍ كوثرٍ لا ينضب، بعد رحلةٍ شاقةٍ في صحراء القلق والملل والظمأ، فالمناجاةُ للَّه عزوجل، والتضرعُ إليه، والعيشُ على ذكره، يبعثُ في الروح حياةً متجددةً لا ينقصها العطاء، ولا ينال منها الملل، لأنها تتعامل مع من بيده ملكوت كل شيء، من بيده الكمال الذي لا نقص فيه، والجمال الذي لا يعتريه شحوبٌ ولا يصيبه تغير أو فناء. 
هذه الصِلة تُغني القلب، وتملأه بالأنس، وتجعله يجد في الذكر نوراً يضيء دروبه، ويصرفه عن التفاتاته الشاردة نحو سراب الدنيا وزيفها، وهو ما يزيل أثقال الطين عن قلبك السماوي المحلِّق، ويجعل المناجاة منهاج نجاة! فهذه المناجاة -المقصودة هنا- مناجاة القلب العارف بربه -سبحانه وبحمده- الذي وجد فيه كفايته وغناه وصار مبتغاه وغايته بلوغ قربه ورضاه، فيكون أكثر جلدا من غيره وأقدر على دوام العبودية ووظائفها.
وهذا المعنى عموما يا حبيبي ليس مجرد شعورٍ عابر، بل هو أساسٌ متينٌ لتربية النفس على الزهد الحقيقي، لا بمعنى ترك الدنيا بالكلية واعتزال الحياة، بل بمعنى ترك التعلق القلبي بها بعد معرفتها، أن تتعلم كيف تعيش في الدنيا ولا تكون منها، أن تستخدمها كمعبر لا كمستقر، وكسفينة لا كشاطئ يرسو فيه القلب. 
وهذا الفهم يُربي فينا وفي أجيالنا المعاصرة مناعة تعين على مقاومة إغراءات الفناء، ويصقل فينا القدرة على تجاوز الأكدار بقلبٍ مطمئن، عالمٍ بأن هذه الأكدار مجرد عوارض في رحلةٍ إلى كمالٍ أبدي، وأنها بوابات وصال، بمنن أو محن، تكون في كليهما على خير ما دمت موصولًا منشغلًا به غير لاهٍ عنه ﷻ.
فالصِلة باللَّه ليست مجرد طقوس وشعائر يُؤتى بها لتأدية فرض، بل هي منهاج حياةٍ كامل، يُعيد ترتيب الأولويات، ويُلقي بظلاله الوارفة على كل جانب من جوانب السلوك، من أصغر التفاصيل إلى أعظم القرارات.
إنها تُعلمنا أن الثبات الحقيقي في وجه تقلبات الحياة، وفي زلازل المحن، لا يكون إلا بالرسوخ الساجد على عتبة الملك سبحانه وبحمده، وبمد يد القلب إلى حبل الله المتين ومنهاجه القويم.
وأنت تجد أننا في حياتنا اليومية، كثيرًا ما نبحث عن السعادة في التملك، في النجاحات المتتالية، في العلاقات البشرية، في الإنجازات المادية..
لكن التجربة الشرعية والبشرية تؤكد مرارًا وتكرارًا أن هذه السعادات، وإن كانت مهمة ومُبهجة في حينها، إلا أنها مؤقتة، ويعقبها حتمًا شعورٌ بالملل أو الفقدان. أما الصِلة باللَّه ﷻ، فهي مصدرٌ للسعادة يتجاوز هذه المتغيرات ويصمد أمام عوادي الزمن وتقلبات الأيام..
وهو ما يمنحنا الرضا بما قسم لنا، والصبر على ما فات، والشكر على ما أتى، لأن قيمة الحياة لا تُقاس بما نملك من حطامٍ، بل بما نحن عليه من صلةٍ بالخالق الرحمن سبحانه وبحمده، ومن إيمانٍ مُخبِتٍ، وحبٍ صادقٍ، ويقينٍ لا يتلعثم أمام عسكر الباطل. 
هذه الصلة تمنحنا القوة على مواجهة تحديات الحياة، وتزرع فينا الأمل حتى في أحلك الظروف وأشدها وطأةً، لأننا نعلم أن هناك سندًا لا يزول، وملجأً لا يخيب، وأن اللَّه تعالى هو من قبلة قلبك، ومنتهى مرادك، فلا حياة ولا نعيم لك بغيره أو بدونه أو مع سواه.

رحمَـة1 أعجبهم العدد
مشاركة
بدايات معرفية

بدايات معرفية

نشرة مخصصة لمشاركة المحتوى المعرفي في مجالات العلوم الإسلامية والجوانب الاجتماعية والحياتية.

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من بدايات معرفية