«لله الأمر من قبل ومن بعد» | الهزيمة الرومية | أنوار سورة الروم

5 مايو 2025 بواسطة محمد جمال بخيت #العدد 2 عرض في المتصفح

الهزيمة الرُّوميةُ كانت قضيةً مؤقتةً، ونصرُهم عبارةٌ عن مسألةِ وقتٍ، وما بين "غُلِبوا" و"سيَغلِبونَ" مساحةٌ واسعةٌ من الاحتمالاتِ التي تمَّ حسمُها بـ  
بلسمِ اليقينِ بوعدِ نصرِ ربِّ العالمينﷻ.  
فليست أمامَ شِدَّةِ المواقفِ وانطفاءِ أضواءِ الأملِ إلا مطالعةُ سوابقِ المننِ، وتجديدُ العهدِ بلطفِ الربِّ سبحانه وبحمدِه، وأنَّه رحيمٌ بعبادِه؛ يُربِّيهم ويصنعهم ويرقيهم ويُنقِّيهم، وله في ذلك حِكمٌ وآياتٌ لا تخرجُ عن كونِها مصلحةً ورحمةً.  
وأنَّ هذه المكارهَ الشديدةَ من الضعفِ، والتسلُّطِ، وما حلَّ بعبادِه من الدمارِ والخرابِ، ما هو إلَّا لحكمةٍ أرادها العليمُ الحكيمُ سبحانه وبحمدِه، وإلا فما الذي يعجزُ ربَّ العالمين سبحانه وبحمدِه؟  
لا يعجزُه شيءٌ أبدًا سبحانه وتعالى، وهو القاهرُ فوقَ عبادِه، إذ له القوةُ والسلطانُ والغلبةُ، فالخلقُ كلُّهم أجمعونَ مربوبونَ مخلوقونَ لا يستطيعون لأنفسِهم حولًا ولا طَولًا إلَّا بإذنِه ومشيئتِه، فهو الذي يقوتُهم ويتولَّاهم ويرعى شؤونَهم العامةَ والخاصةَ.  
وهو القادرُ على قطعِ أمدادِه وأسبابِ حياتِهم عنهم، ولكن له الحِكمُ البالغةُ، والعاقبةُ الباهرةُ.  
فلو وسَّع الإنسانُ دائرةَ نظرِه لأبصرَ ربًّا قديرًا عليمًا خبيرًا مالِكًا للعالمين، وكلُّهم تحت ملكِه وقهرِه.  
فلا يعجزُه نصرُ أوليائِه، ولا أخذُ أعدائِهم وإهلاكُهم، ولو أراد لكان هيِّنًا عليه؛ إذ ليس منهم شيءٌ ولا بيدِهم شيءٌ، يكفي أن يمنعَ النَفَسَ عنهم، فالهواءُ الذي يتنفَّسُه المتجبِّرون والظالمون هو تحتَ ملكِ ربِّ العالمين، وهو قادرٌ على حجبه عنهم، ومنعِهم منه.  
ولكنَّه لم يفعلْ لحِكمٍ ومصالحَ لا نعلمُها ولا نحيطُ ببعضِها، ويكفي أنَّ الآخرةَ هي دارُ القرارِ، وأنَّ ما يصيبُ المؤمنَ في هذه الدنيا يمكنُ أن يكونَ واحدًا من أسبابِ دخولِه الجنةَ خالدًا فيها إلى الأبد.  
وعندها تتضاءلُ سنينُ الاستضعافِ، وزمانُ الهزائمِ، ويصحو المسلمُ من رقدتِه، مُصَوِّبًا يدَه نحو السماءِ مُستَمطِرًا الرحمةَ وأسبابَ النصرِ.
#لله_الأمر #أنوار_الروم #أنوار_الوحي

***

الإنكسارة الرومية

الانكسارةُ الرومِيّةُ كانت لها أصداؤُها عندنا كجماعةِ الإسلامِ، لما يترتّبُ على هذا من المصالحِ والمفاسدِ.  فالفرحُ والحزنُ عندنا ليسا جامدَيْنِ؛ فمن فرحِنا بنصرِهِمْ حاربناهُم بعدَ عدّةِ سنين!  وهذا أصلُهُ أنّ منظومةَ التعاملِ مع الأحداثِ الحياتيّةِ عندنا كمسلمين مبنيّةٌ على قواعدِ نظرٍ لا صلةَ لها بعواطِفِنا أو ميولِنا، بل بما يتّصلُ بمحابِّ اللهِ تعالى ومراضيهِ، وجزءٌ كبيرٌ من هذا يتعلّقُ بمفاهيمَ أُسّسَت على الإيمانِ بالغيبِ، وما ليس لهُ تزامنٌ مع ما يُدْرَكُ بالحِسِّ أو يُشاهَدُ بالبصرِ!  وهذا يَدْخُلُ في عبوديّاتٍ هي أساسُ الحياةِ وبها يكونُ المؤمنُ مؤمناً؛ إذ يُسلِّمُ، ويرضى، ويُفَوِّضُ، ويتوكّلُ، ويُحسِنُ الظنَّ... إلخ، وغيرها من المركزياتِ الإيمانيّةِ.  فكذلك أمورُ الصِّلةِ والمعاملةِ والمعايشةِ، هناك درجاتٌ لكلٍّ منها قد تتقدّمُ أو تتأخّرُ حسب الموازينِ الشرعيةِ، ولكن الذي نعلمُهُ، وهو ممّا تُبنى عليه أصولُ المعاملاتِ بيننا، أنَّ النصيبَ الأكبرَ، والأعظمَ، والأوحَدَ من الولاءِ والبراءِ يختصُّ بدرجةِ القُرْبِ والبُعْدِ من سيّدِ المرسلينَ ﷺ وربِّ العالمينَ ﷻ.  لذلك، عندما نفرحُ بانتصارِ مَنْ خالَفَنا وكانَ على غيرِ دينِ الإسلامِ الذي كانَ عليهِ النبيُّ ﷺ، إنما هو فرحٌ دونَ فرحٍ!  فليسَ فرحُنا بهِمْ دليلَ مدحٍ وتزكيةٍ، فليس مطلوبًا منك أن تكونَ إمّا معَ أو ضدَّ، وليس هذا التقسيمُ الثنائيُّ الحديُّ مما يصحُّ بحسبِ الموازينِ الشرعيّةِ.  نفرحُ بانتصارِهِمْ = ونُرَبِّي أبناءَنا على مخالفتِهِمْ، لأنَّ لنا شرعَنا، هويّتَنا، وما لا يصحُّ أن يخِفَّ وزنُهُ في النفوسِ بسببِ حُسْنِ صِلةٍ بيننا.  نفرحُ بانتصارِهِمْ = ونُرَبِّي أبناءَنا على معتقدِنا الذي يُبيِّنُ أنَّهُم على غيرِ هُدًى وعِلْمٍ.  فسرُّ الفرحِ إذن: أنَّهُم إنّما كانوا أقربَ من غيرِهِمْ حينها، فالفرسُ عندنا كالرومِ؛ كِلاهُما كافِرٌ، ولكنَّ أحدَهما أقربُ إلى الإسلامِ من الآخرِ، وشرُّهُ أخفُّ حينها من الآخرِ.  ولذلك نجدُ أهلَ العلمِ في أمورِ الحربِ والقتالِ يتحدّثونَ عن "الاستعانةِ" بمَنْ فيهِ فائدةٌ وأقربُ إلينا من غيرِهِمْ؛ وإن كانَ فيهِ من الكفرِ والشركِ والبدعةِ ما فيهِ!  واستعانتُنا بهِ، وتواصُلُنا معهُ، ومجالستُنا لهُ = لا تُلْغِي كونهُ متّصِفًا بالظلمِ والفجورِ والكذبِ!  فليس شرطًا في النصرِ والفتحِ دائمًا أن يكونَ على أيدي الصالحينَ والأولياءِ المؤمنينَ، فقد يُكتبُ النصرُ على يدِ إنسانٍ ربما كانَ من أشهرِ الناسِ كذبًا وافتراءً على اللهِ تعالى ورسولهِ ﷺ!  وربّما يكونُ ممن اشتهرَ ببدعةٍ ظاهرةٍ، وممّن كانَ على الشركِ الأكبرِ!  فموازينُ النصرِ مختلفةٌ، وقد قالَ ﷺ: «إنَّ اللهَ يؤيِّدُ هذا الدِّينَ بالرجلِ الفاجرِ، وبأقوامٍ لا خَلاقَ لهُمْ».فما دامَ أنَّهُ سينصرُ ظاهرَ الإسلامِ، ويدفعُ عنَّا عدوًا أعلى منهُ وأعظمَ أثرًا عليهِ؛ فيمكنُنا الاستعانةُ بهِ، ولا يعني هذا كما قُلنا: أنْ نُمجِّده، ونجعلهُ من القدواتِ، أو حتى أنْ نُذيبَ الفوارقَ الشرعيَّةَ بينَنا وبينَهُ، بل نمدحُهُ ونبيِّنُ أوجهَ الخلافِ بينَنا والأخطاءَ التي فيهِ؛ حتى لا تنشأَ أجيالٌ تغيبُ عنها الحقائقُ وموازينُ الأمورِ، فترى من تمجيدِ قومِهم لأشخاصٍ وجهاتٍ: كانت لهم منجزاتٌ ومواقفُ ساهمتْ في انتصارِ المسلمينَ أو رفعِ رايتِهم، أو نجاتِهم وصلاحِهم، أو ما عادَ بالخيرِ عليهمْ؛ فحجبَ بصيرتَهم عن مثالبِهم والقَدْرِ الواجبِ تجاهَهم وعليهم.  وهذا كلُّهُ يُدرِكُهُ أهلُ العلمِ والبصيرةِ ومَن يُقدِّرونَ أيَّ الأمرينِ أخفَّ شرًّا وأهونَ ضررًا. وهذا يُفسِّرُ لنا جانبًا ينبغي ألّا يغيبَ عن واقعِنا السياسيِّ في زمانِ الاستضعافِ والغُثائيةِ الذي نعيشُهُ، فلا يصحُّ أن نجدَ جماعةً مستضعفةً وجدتْ متنفسًا عند قومٍ "لا خَلاقَ لهم"، ولا هم ممَّنْ يُرى فيهم بادرةُ مصالحةٍ وصُحبةٍ، ولكن للأسفِ كان حالُهم يستلزمُ أخذًا بأسبابِ النصرِ، وكانوا همُ الأقربَ إلى هذا!  وهلْ هذا يُلغي شرَّهم والمفاسدَ التي تلازمُ هذه الاستعانة؟ لا، ولكنه شرٌّ دونَ شرٍّ، ومفسدةٌ قدَّرها القائمونَ على هذه الثغورِ. فالكلامُ هنا عن مسألةِ الاستعانةِ فقط في أصلِها، لا في بقيةِ المسائلِ المتعلِّقةِ بها. فاستعانتُنا بالكفارِ والمشركينَ والمبتدعةِ تُقدَّرُ بقدَرِها، مع المحافظةِ على الفوارقِ التي بينَنا، وأولُها أنْ نعلمَ أنَّ هذه الاستعانةَ لأجلٍ معيَّنٍ، ومتى تمكَّنَّا وتقوَّيْنَا = فواجبُنا دعوتُهم إلى دينِ الإسلامِ والتوحيدِ.  وهنا أرجو ألَّا يغيبَ عنك مشهدُ سيِّدِنا يوسفَ عليهِ وعلى نبينا أفضلُ الصلاةِ والسلامِ، وتلكَ القاعدةُ التي هي في أنوارِ سيرتِه. فأنتَ تجدُ قاعدةَ: "الإمكانيَّة" من القواعدِ الجليَّةِ في سيرِ المصلحينَ، وهنا أيضًا.. فلمْ يتوقَّفْ عن نشرِ الخيرِ والعدلِ حتى يتسيَّدَ أو يغلبَ، بلْ بحسبِ الإمكانِ، وما هو متاحٌ وما استطاعَهُ وقدَرَ عليه...  وأنتَ ترى طبيعةَ المجتمعِ الذي كانَ فيه والبيئةَ المحيطةَ به!  فهو في وسطِ بيئةٍ فرعونيةٍ مشركةٍ من كبيرِهم إلى صغيرِهم.  ولهذه القاعدةِ ضوابطُ تؤخذُ من سيرةِ النبيِّ ﷺ بشكلٍ أوضحَ وأصفى. وأختمُ لكَ بما قالهُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ رحمهُ اللهُ ورضي عنهُ بعد أن ذكر أصولًا وقواعدَ في أمورِ الولاياتِ والأمرِ والنهي، عقَّبَ بقولهِ:  «فلذلك يجبُ على كلِّ وليِّ أمرٍ أنْ يستعينَ بأهلِ الصدقِ والعدلِ، وإذا تعذَّرَ ذلك، استعانَ بالأمثلِ فالأمثلِ، وإنْ كانَ فيه كذبٌ وظلمٌ؛ فإنَّ اللهَ يؤيِّدُ هذا الدِّينَ بالرجلِ الفاجرِ وبأقوامٍ لا خَلاقَ لهم. والواجبُ إنَّما هو فعلُ المقدورِ، وقد قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، أو عمرُ بنُ الخطابِ رضيَ اللهُ عنه: "من قلَّدَ رجلًا على عصابةٍ وهو يجدُ في تلكَ العصابةِ مَن هو أرضى للهِ منهُ، فقد خانَ اللهَ، وخانَ رسولَهُ، وخانَ المؤمنين."فالواجبُ إنَّما هو الأرضَى من الموجودِ، والغالبُ أنَّهُ لا يُوجَدُ كاملٌ، فيفعلُ خيرَ الخيرينِ، ويدفعُ شرَّ الشرَّينِ. ولهذا كانَ عمرُ بنُ الخطابِ رضيَ اللهُ عنهُ يقولُ: "أشكُو إليكَ جلدَ الفاجرِ وعجزَ الثقةِ."  وقد كانَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم وأصحابُهُ يفرحونَ بانتصارِ الرومِ والنصارى على المجوسِ، وكِلاهما كافرٌ؛ لأنَّ أحدَ الصنفينِ أقربُ إلى الإسلامِ. وأنزلَ اللهُ في ذلكَ سورةَ الرومِ، لمَّا اقتتلَتِ الرومُ وفارسُ، والقصَّةُ مشهورةٌ.  وكذلكَ كانَ يُوسُفُ عليهِ السلام نائبًا لفرعونَ مصرَ، وهو وقومُهُ مشركونَ، وفعلَ من العدلِ والخيرِ ما قدَرَ عليهِ، ودعاهم إلى الإيمانِ بحسَبِ الإمكانِ».  فهذا وغيرُهُ ممَّا يمكنُ أن تجدَ في أنوارِ هذهِ الآيةِ، فافرحْ واحزنْ = ولكنْ على غيرِ خروجٍ عن الأصولِ والقواعدِ الشرعيَّةِ التي عليها بناءُ إيمانِكَ وتوحيدِكَ، وهذا لا يقدرُ عليهِ بغيرِ استعانةٍ ودوامِ استغاثةٍ باللهِ تعالى، إذ هو المُعينُ، وهو المُغيثُ، وهو الهادي في ظلماتِ الواقعِ الذي نعيشُهُ، فلا ناصرَ لنا غيرُهُ، ولا منهِضَ لحالِنا سِواهُ، ولا موفِّقَ ومسدِّدَ لنا إلا هو سبحانهُ وبحمدِهِ.  

#لله_الأمر #أنوار_الروم #أنوار_الوحي

***
مشاركة
بدايات معرفية

بدايات معرفية

نشرة مخصصة لمشاركة المحتوى المعرفي في مجالات العلوم الإسلامية والجوانب الاجتماعية والحياتية.

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من بدايات معرفية