حلقة الوعي🌴- العدد #36

بواسطة عهد #العدد 36 عرض في المتصفح
للضمير المؤنث3>

صباحك كله سرور، أكيد أيقظك المنبة عوضًا عن الخوف بأن يبتلع الذئب حلالك، تصحين وتغسلين وجهك النيّر بالماء المنهمر من الحنفية وليس عبر السطل المخبأ في ذرا الخيمة أو الحاجة للمسراح نحو أقرب غدير، نعم غدير أو بركةٍ أو سدٍ قريب فأنتِ بدوية في الجزيرة العربية ومصادر المياه العذبة تكاد تنعدم. تكملين صباحك وتفتحين ثلاجتك الوافرة بالنعم، بيض المزرعة؟ زعتر الجوف؟ جبن فرنسي؟ تتخيرين لأنك أكيد لن تخوضين مشقة طحن الحبوب أو إشعال النار أو العجن يدويًا بيديك العاريتين، حليب أو قهوة؟ ربما تكون «سولد أوت» فالمال شحيح رغم النفس الغنية. ترتدين ملابسك وتتجهين للعمل، عملٌ اخترتيه، لن تضطري لرعي الغنم والبل قبل بزوغ الشمس حتى لا يموت الحلال جوعًا فتموتين معه حسرة. تعودين مع الغروب أو قبل المغرب بسويعات لذات منزلك الدافئ، ففوقك سقفٌ بعد الله حامي، وتنهدين على فراشك الناعم، وتطلّين على العالم بما رحب عبر جوالك، لا تخافين حولما ستأكلين غدًا حتى تقلقين على ما ستتعشين اليوم، الماء لازال ينهمر رهن إشارتك كلما أردتِ، والطعام بفضل الله أمامك كلما سألتِ.

هذه أنا وأنتِ ونحن نعيش رفاهية الاختيار والتخيّر، هذه الحياة التي لم تحلم بها جداتنا من قبل.

أجــــــيـــــــال

أجــــــيـــــــال

رفاهية البوح

مرّت علي ذات مرة أثناء تصفحي للجوال عابرة سبيل تقول أن جداتنا وحتى أمهاتنا لم يحظين بنصف الحياة التي نحظاها، تخيلي كل ما تملكينه اليوم بالكاد ملكته جدته يومًا ما، ولا نتحدث هنا عن تطورات الزمن الطبيعية ولكن نتكلم عن التغيرات الاجتماعية، وكيف تغيرت الأزمان لتدعو النبيهة منّا بتأملها. 

كل مرة أجلس مع سيدةٍ كبيرة وتحكي بعفوية عن قصصها القديمة أتعجب عن الحياة التي خاضتها، تحدثني جدتي مثلًا بصورةٍ عفوية للغاية كيف كانت تضطر أن تصحو قبل الفجر لترعى الغنم، ولم تكن الرعاية بحد ذاتها المسألة، لكن الصعاب التي خاضت وتحكيها ببرودةٍ وكأنها «طبيعية» عن كيف سارت الطرق الضريرة، وتسلقت الجبال الوعرة، وألتقت بالغرباء، وكيف ينقطع تواصلها مع اهلها لفتراتٍ قد تصل لأيام! كيف كان الجوع مؤلمًا وكيف كان الليل مظلمًا. ،تحكي لي عمتي هي الأخرى عن المرض التي وراها طفلةً صغيرة تكابد الموت، وكيف ارتحلت هي ووالدتها للبحث عن طبيبٍ لعله يبري العلّة. ثم اسمع أخرى تحكي بذات العفوية كيف كاد أن يكون المخاض في غرفتها مميتًا. وبين هذه القصص الصعبة اتسائل أين كانت المشاعر التي تؤخذ بالحسبان، هل تشافت جدتي يومًا من الوحدة المخيفة التي خاضتها؟ هل «تخطت» عمتي الرحلة المضنية برفقة عزرائيل؟ وكيف تعاملت تلك السيدة من اكتئاب ما بعد الولادة؟ 

كل قصةٍ ستسمعينها لسيدةٍ تفوقنا عمرًا ومعرفة تستشفين فيها ألمًا بالكاد طاب، وجرحًا معييًا بالكاد ألتئم، تحكيه تلك السيدات بعفوية، عفوية من حاولت نسيانه أو تلطيفه تحت قصةٍ مضحكة، أو كغيرهن الكثير اللاتي اخترن الصمت الطويل. 

لا نفرق الكثير عنهن، كلنا نساء نعيش ذات الحياة، لكننا اليوم في كنف نعمٍ لم تطرق بابهن، ولا يعني بالضرورة أننا نعيش جنة أو أنهن عاشوا النار، فكلُ إنسان يستوفي رزقه كاملًا على أي حال، لكن للضرورة أحكام كلبشت حياتهن وربما حررتنا ولو قليلًا. 

نميل أحيانًا إلى لوم جداتنا وأمهاتنا -أليس هذا مضحكًا قليلًا؟ فالرجال على الجانب الآخر من الكفة يفتخرون عبر التاريخ بسلالاتهم بينما نقبع نحن هنا في حصار الظروف وأحكامها!- فنلومهن على خياراتهن وطباعهن، كأن نلوم قسوتهن على والداتنا بينما لم يتجرعن هن الحب أنفسهن! لم يملكن رفاهية البوح أو «الاستحقاق العالي»، أو التشافي من الوحدة والقلق والحزن والهجر واليتم وغيرها مما يمر الإنسان. ولاحظي أنني لم أتطرق للآن إلى تراهات المجتمعات الذكورية والنسوية، نحن نتحدث هنا عن البديهيات الانسانية والاحتياجات العاطفية! -مؤلم ومضحك في نفس الوقت-. 

وعوضًا عن هذا اللوم، لم نفكر أنهن -مثلنا- كانوا يومًا شابات طموحات لحياة رغيدة، ولقلبٍ حنون، وزوج ودود، وقماشٍ ثمينٍ مرغوب. بل حتى لا نفكر ما الذي قد تكونه جداتنا لو كان لهم نصف ما نملك اليوم.. تسائلي عن شكل حياة جدتك لو لم تضطر أن تكون السيدة التي هي عليها اليوم ولم تمر بظروفٍ ألبستها ثوبًا لم تستطع أبدًا تمزيقه، وكان لديها المساحة الكافي لاكتشاف نفسها وممارسة هواياتها، ربما كانت لتكون قائدة، شاعرة، رسامة، مؤلفة، مصممة...إلخ.

أظنني أحمل في قلبي لجداتنا الحب الكبير، فما نحن عليه اليوم نتاج تضحياتٍ عظيمة ضحوها، وأظن أن علينا فسخ رداء التنظير واللوم لما آلت عليه حياتهن، ونقف وقفة احترامٍ لسيداتٍ صمدن في وجه المشقة صمود الواثق، القوي، صمود «عن مائة مرأة» كما لم يقال. 

وما يلفت هذا الموضوع اليوم نقطتين رئيستين: 

الأولى: أنني لا أقلل من همومنا اليوم بتاتًا البتة، ولكن اذكرني وإياكن عن الفرص الممكنة بين أيدينا، أن ننظر لحياتنا ويومنا برؤية واضحة زاخرة بالنعم والتمكين، ترسم ملامح مستقبلنا وتعبّد طريقه، بل وأن نتذكر أننا نحمل ذات الجينات الصامدة، وتسخيرها وتوجيهها نحو الطريق الذي نودّه ليس بالصعوبة التي نظن. كما أنها جينات تذكرني وتذكرك بأن لا نكون بتلك الهشاشة النفسية، و«التخطي» وسيلة النساء منذ الأزل للمضي قدمًا مهما كان الموضوع.

الثانية: هذا الإدراك بحال من سبقونا يذكرك بالمسؤولية الحقيقة التي تقع على عاتقك، ففرصك لم تملكها جدتك وبالرغم من ذلك تمكنت من العيش في حياةٍ كريمة، فماذا عنكِ أنتِ وأن تملكين الفرصة والعزيمة؟ 

أشعر دائمًا أنني لابد أن اعيش حياتي كما لو كانت جداتي يودن عيشها، تختلف بيننا الأزمان ولكن لازلنا في ذات الأرض وتحت ذات السماء، والذي خاضوه من مشقة لابد لأثارها أن تنقشع. ألم تمر عليك فلسفة حلقة البؤس التي تتناقلها الأجيال؟ يعني القسوة التي عاشتها جدتك نقلتها لوالدتك، ثم من والدتك لك، ثم منك لطفلتك! هذه مثلًا من الحلقات التي يوصي المختصون بالتشافي منها والتوقف عن حملها من جيلٍ لآخر بصورةٍ لاواعية. فالتضحيات التي ضحتها جدتك ووالدتك ليست بالضرورة محتومة عليك، والأكيد ليس للجيل الذي بعدنا. هذا الزمن يعطينا الرفاهية للوصول للوعي والإدراك بحالنا وتفسير التصرفات التي دارت في فلك النساء منذ القدم، هذه الرفاهية التي أثارت نشرة اليوم. 

ختامًا، الحياة أقصر من أن نضيعها في الغرق بعقد الماضي وأن لا نستغل تمكين العصر الحاضر في تحقيق احلامنا وفرضها واقعًا نراه. وأقصر كذلك من لوم جداتنا على حياتهن البسيطة عوضًا عن تقديرهن واحترام الظروف التي مررن بها، ونصبهن قدوة في التعريف الحقيقة للأنوثة والمرأة القوية.

إلى اللقاء في نشرة أخرى تطيّب جداتنا وجودها! 

كاتبتكم المعهودة المغرمة بصلابة الجدات: عهد🌷

مشاركة
نشرة نَجوى عهد

نشرة نَجوى عهد

نَجوى عهد، نشرة بريدية اسبوعية اشارككم فيها افكاري وتأملاتي وحتى هواجيسي التي ملّت حبس مذكراتي. جسرًا بيننا تغرّد فيه افكاري بحرية!

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة نَجوى عهد