أنت مسؤول عن السعي لا النتيجة!🙌🏻 |
بواسطة نادي عقول • #العدد 11 • عرض في المتصفح |
بعد سنين من الدراسة والسعي، كانت هذه الجملة هي الدافع الذي جعلني أتقدم أكثر فأكثر، خاصة عندما تأتيني موجة إحباط ويأس. كلما رغبت بالتوقف، كنت أتذكر أن السعي أمر محتوم لا بد منه، وهو واجبي الحقيقي. فأنا مسؤولة عن السعي، وليس النتيجة. هذا الإدراك العميق دفعني إلى البحث عن المعنى الحقيقي وراء هذه الفكرة، التي تتجاوز حدود الفكر الشخصي لتتجذر في عمق القيم الدينية والفلسفية.
|
|
السعي في القرآن والسنة |
مفهوم السعي حاضر بقوة في تعاليم الإسلام، حيث يُنظر إليه على أنه جوهر مسؤولية الإنسان في الحياة. يقول الله تعالى في كتابه الكريم: |
“وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ” (النجم 39-41). |
هذه الآية تؤكد أن الإنسان مُكلَّف بالسعي، وأن الجزاء يأتي بناءً على الجهد المبذول، لا بالضرورة على النتيجة الظاهرة. فالسعي هو مناط التكليف، أما النتائج فهي في علم الله وتقديره. |
وفي السنة النبوية، يقول النبي ﷺ: |
“احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل.” (رواه مسلم). |
هذا الحديث يعمِّق المعنى ذاته، إذ يدعو الإنسان إلى التركيز على بذل الجهد، مع التسليم بأن النتيجة في النهاية هي من أقدار الله. السعي هو مسؤولية الإنسان، أما النتيجة فهي بيد الله. |
السعي كجوهر للوجود |
في عمق الفكر الفلسفي، تُطرح مسألة العلاقة بين الفعل والنتيجة بوصفها محورًا أساسيًا في فهم معنى المسؤولية الإنسانية. يتجلى هذا المفهوم في فكرة أن الإنسان ليس مسؤولًا عن النتائج النهائية لأفعاله بقدر ما هو مسؤول عن الجهد المبذول والسعي نفسه. هذه النظرة تعكس منظورًا عميقًا للوجود، حيث يُنظر إلى السعي باعتباره غاية في حد ذاته، بينما تُترك النتيجة لتفاعلات معقدة بين القدر، والظروف، والإرادة الحرة. |
في الفكر الوجودي |
يؤكد الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر أن الإنسان هو “مشروع قيد التحقيق”، وأن المعنى الحقيقي للحياة لا يكمن في النتيجة النهائية، بل في عملية السعي المستمرة. فالإنسان يتحدد من خلال أفعاله، والحرية الحقيقية تكمن في الاختيار والسعي المستمر لتحقيق الذات. النتيجة قد تكون خارجة عن سيطرة الإنسان، لكنها ليست ما يحدد قيمته أو مسؤوليته الأخلاقية. |
في الفلسفة الرواقية |
من زاوية أخرى، ترى الفلسفة الرواقية، التي يمثلها ماركوس أوريليوس وسينيكا، أن السعادة تكمن في السيطرة على أفعالنا وردود أفعالنا، لا في التحكم بنتائجها. الرواقية تدعو الإنسان إلى القبول بأن هناك أشياء خارجة عن إرادته، وأن الحكمة الحقيقية تكمن في التحكم فيما نستطيع التحكم فيه، وهو السعي. يقول ماركوس أوريليوس: |
“واجبك أن تفعل الخير. أما ما وراء ذلك، فهو ليس من شأنك.” |
التناقض بين السعي والنتيجة |
الفارق الجوهري بين السعي والنتيجة يكمن في أن السعي فعل إرادي ينبع من حرية الإنسان وقدرته على الاختيار، بينما النتيجة تخضع لعوامل كثيرة خارج نطاق سيطرته. على سبيل المثال، الطالب الذي يجتهد في الدراسة يكون مسؤولًا عن مقدار الجهد الذي بذله، لكنه ليس مسؤولًا بالضرورة عن الدرجة النهائية التي سيحصل عليها، إذ قد تتدخل عوامل أخرى مثل صعوبة الامتحان أو ظروفه الصحية. |
هذا التناقض يعكس مفهومًا فلسفيًا عميقًا حول معنى المسؤولية. المسؤولية الأخلاقية ترتبط بالفعل نفسه، لا بما يترتب عليه. فالإنسان مسؤول عن صدقه، وعن اجتهاده، وعن التزامه بالقيم، لكنه ليس مسؤولًا عن النتيجة التي قد تتأثر بظروف خارجية. |
السعي كقيمة أخلاقية |
السعي في حد ذاته يحمل قيمة أخلاقية، إذ يعبر عن التزام الإنسان بمبادئه وقيمه. في الفلسفة الكانطية، يؤكد إيمانويل كانط أن الفعل الأخلاقي يُقاس بالنية الخالصة وراءه، لا بالنتائج المترتبة عليه. إذا تصرف الإنسان وفقًا لما يمليه عليه الواجب الأخلاقي، فهو مسؤول عن الفعل، أما النتيجة فهي مسألة ثانوية لا تُلغي قيمة السعي الأخلاقي. |
السعي كطريق للتحرر |
عندما يدرك الإنسان أن مسؤوليته تكمن في السعي لا في النتيجة، فإنه يتحرر من الخوف والقلق المرتبطين بعدم اليقين. النتيجة تصبح شيئًا عرضيًا، بينما السعي يصبح هو الجوهر. هذا التحرر يمنح الإنسان القدرة على التصرف بشجاعة، دون أن يكون أسيرًا لنتائج مجهولة. |
في الختام نستطيع إذًا أن نقول، المسؤولية الحقيقية للإنسان تكمن في السعي، في بذل الجهد، وفي الإخلاص للفعل، لا في النتيجة النهائية. النتيجة ليست سوى انعكاس لتداخل معقد بين الإرادة الفردية والعوامل الخارجية. حين يدرك الإنسان هذه الحقيقة، فإنه يتحرر من عبء النتائج ويصبح قادرًا على عيش حياة أكثر صدقًا وسلامًا مع ذاته. السعي هو الغاية، والنتيجة بأمر من الله.
|
دمتم سالمين ، هذه النشرة الإستثنائية من كتابة رئيسة نادي عقول : د. وجن الجريس |
*** |
![]() |
تابعونا على 👇🏻 |
X |
TikTok |
التعليقات