نشرة عاطف أبوشعفه البريدية - العدد #3 |
17 يناير 2025 • بواسطة عاطف أبوشعفه • #العدد 3 • عرض في المتصفح |
حتى يصبح للحياة معنى.مقروءات في حافظتي ونشرة لتعم الفائدة
|
|
في العالم شعور ضخم بالفراغ؛ وأكثر الأمم إحرازاً للتقدم العلمي والتقني هي أكثر الأمم شعوراً بفقد أنشطتها لغاياتها الكبرى ومعانيها السامية! إن من أدبيات النهضة الحديثة المعلنة والمستبطنة الحث على الانصراف عن التأمل في مصيرنا وفي مدى تحقيق إنجازاتنا لذواتنا وسعادتنا، إلى الاهتمام بالعمل والإنجاز والنجاح . |
وتلك الأدبيات تمجد العمل المنتج مهما كان بعيداً عن أي مقصد روحي أو ديني أو خلقي. ولِمَ لا يكون ذلك وكثير من الفلاسفة يبشرون بأن المعرفة بالأشياء حين تمتزج بالإنجاز العالي، فإنها تغني صاحبها بنعيم فردوس أعظم من النعيم الموعود في الآخرة! لكن بعض ذوي الإحساس المرهف والأفق الواسع من حكماء الغرب بدؤوا يدركون شيئاً فشيئاً أن التقدم المادي لا يستطيع تحقيق كل أبعاد الجوهر الإنساني ولا إشباع كل تطلعات النفس البشرية. وصاروا يشعرون أن إطلاق العنان للفاعلية الإنسانية لتصبح في مستوى مبدأ من المبادىء الكبرى سوف يفرغ الحياة البشرية من الدلالات والمعاني الداخلية، ويؤهلها لقبول كل شيء غير إنساني وغير أخلاقي؛ بل تجاوز الأمر ذلك إلى الشك في أن تكون إنجازات البشرية - المعزولة عن الاتصال بالغيب - كافية لتحقيق سعادة الإنسان، مهما بلغت درجة الرفاهية والأمن والتقدم التي سيتم تحقيقها. |
إن هناك إحساساً متزايداً بأن الانسجام بين الإنسان والكون يتلاشى كلما صار الإنسان أصلب إرادة وأعظم قدرة، حيث يتجه الاهتمام إلى الإبداع والإنجاز بعيداً عن أي مطالب روحية أو مقتضيات أخلاقية. وهذا (جولان هكسلي) يقول: إن أقدس واجبات الإنسان، بل إمكانه الأكثر جدارة في الوقت نفسه، إنما يمثُل في تيسير تحقيق الحد الأعظم من المسيرة التطورية فوق هذه الأرض! لكن ما الذي في جعبة الذين يشكون من هذه الوضعية البائسة؟ |
الذي رأيته من خلال الاطلاع على كتابات الغربيين المتباكين على الأخلاق والأهداف الكبرى المفقودة، هو أن بعضهم يتاجر بذلك مجاراة لتيار جديد، أو لكي ينفي عن توجهه الفلسفي الإغراق في المادة، أو لكي يأتي بشيء جديد. وبعضهم - ولا شك - صادق في شكواه، لكن ليس عنده شيء يقوله، حيث الخوف الجاثمِ من أن يعيد الحديث عن الإيمان والآخرة والجنة والنار الغرب إلى حظيرة الكنيسة التي جاهد جهاداً مريراً للخروج منها والتحرر من ربقتها. إن المخاوف التي يعبرون عنها كثيراً ما ترتبط بمصير الحضارة ومصير التقدم وسعادة الإنسان. |
ومع أن الإنسان الغربي قلق تجاه الوضعية التي سيصير إليها بعد الموت، إلا أن معظم فلاسفة الغرب لا يجرؤون إلى الآن على التحدث في ذلك والتنظير له. يقول (هنري أرفون) في كتابه (فلسفة العمل): «لقد أصاب النقاد في إبراز تخبط الإنسان الحديث الذي تُرك في عالم بدون مفتاح وبإزاء حرية بدون مضمون. وعندما تحرر من خضوعه للطبيعة لم يعرف أي معنى يضفيه على انتصاره؛ فقد ضاق العبد عندما أصبح سيداً بحريته الجديدة. والواقع أن التقدم المادي لا يقود إلى أي مكان إلا إذا كان مرتبطاً بتقدم أخلاقي، يحض الإنسان على استخدام قدرته المتزايدة في سبيل انفتاحه الخاص) . |
ثم يقول الرجل: ((ومهما يكن من أمر الأخطار التي تعرّض التقنيةُ الإنسان للوقوع في براثنها، فمن المحال الرجوع القهقرى؛ ذلك أن الإنسانية ربطت مصيرها بمصير علم منتصر، ولكن من الجائز - إن لم نقل مما لا غنى عنه - أن نتمم التحرر المادي الذي ندين به للتقنية بتحرر روحي). |
هذا من أفضل ما يقوله الفلاسفة هناك، وهو كلام عام وغامض، وقد ختمه بجعل التحرر الروحي متمماً للتحرر المادي، ليس أكثر. وكأن زمان الثورات الفكرية في الغرب قد انتهى ليبدأ الحديث عن الأشياء الصغيرة! إن الرؤية الإسلامية للوجود هي وحدها التي تستطيع أن تضفي معنى ممتداً وشاملاً على حركة الإنسان في هذه الحياة من خلال إعلان مبدأ (العيش لله) بما ينطوي عليه ذلك المبدأ من العبودية الله - تعالى - في العطاء والمنع والإقدام والإحجام، وبما ينطوي عليه من تفسير للأحداث اليومية التي يمر بها. وهذا واضح في قوله - سبحانه _: ( قُلْ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبٍّ الْعَٰلَمِينَ (٢٦) لَا شَرِيكَ لَه وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسلِمِينَ (١) (٢٦) . |
بهذه العقيدة يحصِّن المسلم نفسه من الغرور باكتشافاته وإمكاناته، كما يستطيع التعامل مع مفردات الوجود على أنها |
، مثله أيضاً تسبح وتطيع اللّه ؛ |
فلا يتخذون موقفا عدائيا تدميريا منها وبهذه العقيدة تصبح |
نجاحات الدنيا كلها مؤقتة كما تصبح إخفاقاتها أيضاً عابرة، وبهذه العقيدة نقيد نزعات الحقد والكراهية والحسد وإيذاء الخلق، لنطلق لقوى الخير الكامنة فينا العنان من أجل نشر الفضيلة ومن أجل البناء والتنمية . |
التعليقات