من الفصاحة إلى هندسة الأوامر

بواسطة د. فادي عمروش #العدد 90 عرض في المتصفح
دور إتقان اللغة العربية في توجيه النماذج اللغوية

الإجابة بسرعة: نعم، فكلما كان تعبيرنا اللغوي أكثر وضوحًا ودقَّة، زادت قوَّة تفاعل الذكاء الاصطناعي مع ما نسأله أو نطلبه؛ فالذكاء الاصطناعي، مهما بدا خارقًا، لن يكون ساحرًا قادرًا على استجلاب الإجابات من العدم، بل سيكون“مُتعلّمًا” يتنبَّأ بالنص المناسب بناءً على المدخلات التي قُدِّمت إليه، ومن هنا يظهر جليًّا دور اللغة العربية الأم حين نستخدمها بفصاحة وبألفاظ واضحة في دعم قدراتنا على التحكُّم في مخرجات النماذج اللغوية ورفع مستوى أدائها.

- YouTube

- YouTube

هندسة الأوامر (Prompt Engineering)

يشير مصطلح هندسة الأوامر إلى كيفية بناء وصياغة الطلب أو السؤال أو التوجيه الموجّه إلى النموذج اللغوي بهدف الحصول على أفضل النتائج. يُستخدم المصطلح بالإنجليزية (Prompt Engineering) ويُترجم أحيانًا إلى “هندسة الأوامر” أو “هندسة المطالبات” أو “هندسة التوجيه”، لكنه في كل الأحوال يشير إلى مهارة كتابة المدخلات المناسبة (السؤال، الطلب، التلقين) للنموذج؛ بحيث نرفع من جودة المخرجات.

هنا تتجلَّى العلاقة مع اللغة العربية: إن لم يكن لدى المستخدم القدرة على التعبير الواضح والدقيق عمَّا يريد، فسيكون النموذج في حيرةٍ من أمره، وقد يقدِّم إجابات عامة أو غير دقيقة أو ركيكة، أمَّا إتقان الكتابة والصياغة -باللغة الأم خصوصًا- فيوفِّر عاملًا حاسمًا في نجاح تفاعلنا مع النماذج التوليدية.

إذا ألقينا نظرة على عالم الذكاء الاصطناعي عمومًا، والنماذج اللغوية التوليدية على وجه الخصوص، فقد يتبادر إلى الأذهان تساؤل: ما العلاقة بين الفصاحة وإتقان اللغة العربية وبين هندسة الأوامر (Prompt Engineering)؟ وهل يمكن للكتابة البليغة بالعربية أن تؤثِّر فعليًّا في جودة مخرجات الأنظمة الذكية؟

دور اللغة العربية والفصاحة في التوجيه المثالي

تقوم هندسة الأوامر على مبدأ “اطلب ما تريد بوضوح، تنل ما تريد بجودة”. فكلما كان الطلب مصوغًا بلغة عربية فصحى، خالية من اللبس والأخطاء النحوية أو المفردات الدارجة المرتبكة، استطاع النموذج فهم المقصود بصورة أدق.

مثال بسيط: إذا طلبنا من النموذج أن “يختصر” مقالًا، فقد يعطينا ملخَّصًا موجَزًا ربَّما لا يتضمَّن بعض المعلومات الأساسية، بينما لو قلنا له “اكتب النص مجددًا بلغة موجزة، مع المحافظة على جميع الأفكار الرئيسة من دون حذف”، فسيأتي الرد أكثر شمولًا واحتفاظًا بالتفاصيل المطلوبة. اختيار الألفاظ الدقيقة يغيِّر النتيجة.

تهيئة النموذج للغرض المنشود

إن من أهم تقنيات هندسة الأوامر أن نطلب من النموذج أن “يتقمَّص” شخصيةً معيَّنةً أو أسلوبًا محدَّدًا. ولتحقيق ذلك بالعربية، لا بد أن نعرف كيف نصف هذه الشخصية أو الأسلوب وصفًا يعكس  ما نريده.

فعلى سبيل المثال، قد نطلب من النموذج: “تصرَّف كأنَّك خبير في الشعر العربي والأدب القديم، واكتب نصًّا بلغةٍ أدبيةٍ رصينةٍ كأنَّك من أدباء العصر العباسي”. إن كنا نستخدم مفردات قوية واضحة، فسيفهم النموذج رغبتنا ويُخرج نصًا أدبيًّا قريبًا من روح ذاك العصر. أمّا استخدام عبارات عامية مقتضبة، فقد لا يؤدِّي إلى الناتج ذاته.

البناء على مهارات الكتابة والتعبير

التعبير السليم يتطلَّب القدرة على الصياغة، والوقوف على مواطن القوّة في المفردات، ومعرفة الأخطاء الشائعة لتجنّبها، فمن يتقن قواعد العربية ويملك رصيدًا ثريًّا من أساليب البلاغة، سيسهل عليه توجيه النماذج التوليدية، سواء طلب “إيجاز” النص، أو “تحليله”، أو “مناقشته”، أو حتى إعادة كتابته بالأسلوب الأدبي النخبوي أو الأسلوب الصحفي المختصر.

أمثلة واقعية على توجيه بالعربيةالنماذج

في مثال التلخيص، قد يكون الطلب بسيطًا مثل: “لخِّص النص التالي بالعربية”، في العادة يقدِّم الذكاء الاصطناعي في هذه الحالة ملخَّصًا عامًّا لا يخوض في التفاصيل، أمَّا إذا أردنا نتيجةً أكثر دقة ووضوحًا، فنصوغ الطلب بشكلٍ محدَّدٍ على غرار: “استخرج الأفكار الرئيسة من النص التالي، واكتبها بشكل نقاطٍ واضحةٍ من دون حذف أي تفصيل مهم، مع الحفاظ على تسلسل الأفكار”. بهذه الصياغة يلتقط النموذج رغبتنا في التزام الترتيب وتجنُّب التعميم المخلِّ.

وفي مثال اللغة والأسلوب، قد يُطلب ببساطة: “اكتب مقالة عن أهمية التربية”، مما يقود إلى نصٍّ اعتياديٍّ، لكنه قد يغفل الخصوصية أو الجمهور المستهدف. بينما نرتقي بالنتيجة عندما نحرص على توجيهٍ دقيقٍ مثل: “اكتب مقالة عن أهمية التربية بلغةٍ عربيةٍ فصحى سهلة الفهم، ووجِّه الكلام لآباء الأطفال في المرحلة الابتدائية، وتناول أمثلةً واقعيةً من الحياة اليومية”. هنا نتوقع سردًا واقعيًّا موجَّهًا لشرائح بعينها، مع الحفاظ على وضوح اللغة وارتباطها بحياة القارئ.

وفي مثال الترجمة، نجد أنَّ الطلب العام: “ترجم النص التالي إلى الإنجليزية” يسفر غالبًا عن ترجمة سطحية أو حرفية في بعض جوانبها، لكن حين نطلب: “ترجم النص التالي ترجمة أكاديمية، تجنَّب الترجمة الحرفية، واستخدم المصطلحات التربوية الصحيحة عند الحديث عن المناهج الدراسية”، يلتزم النموذج بنسقٍ أكاديميٍ أوضح، ويتحاشى الترجمة الحرفية التي قد تُفقِد النص روحه، كما يلتفت إلى المصطلحات المتخصِّصة التي نطلبها.

في الواقع، إنَّ تعلَّم اللغات الأجنبية ضروري للتعامل مع التكنولوجيا الحديثة، لكن عندما نتقن لغتنا الأم، نملك أداةً أقوى للتعبير عن أفكارنا في سياقٍ عربيٍّ محض، خاصة في المجالات التي تتطلَّب مفردات عربية دقيقة، فاللغة العربية بحر من المفردات والعبارات التي يمكن من خلالها ضبط تفاصيل الطلب أو السؤال، الأمر الذي ينعكس مباشرة على جودة الإجابات التي يقدِّمها النموذج.

كما أنَّ الفصاحة ومهارة التعبير تسمحان بإدماج المتطلبات الثقافية والعلمية، وطريقة الاستشهاد بالنصوص القرآنية والأحاديث النبوية أو الأشعار والأمثال العربية، وهذا ما قد لا نجده بنفس العمق لو استخدمنا لغةً أجنبيةً أو صياغةً لغويةً ضعيفةً.

ودمتم بخير

فادي

عبد الرحيم شراك1 أعجبهم العدد
مشاركة
نشرة خارج الصندوق البريدية

نشرة خارج الصندوق البريدية

نشرة دورية تصدر كلّ يوم سبت، يصدرها د. فادي عمروش تتضمن فكرة خارج الصندوق مع اغناءها بالروابط وما بين الكلمات، لتقول وجدتّها

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة خارج الصندوق البريدية