لا تعطه سمكة، علّمه الصيّد، ولكن ليكن هناك بحر قربه أولاً ..

19 أكتوبر 2025 بواسطة د. فادي عمروش #العدد 151 عرض في المتصفح
المهارة دون سياق تُشبه بوصلة بلا خريطة؛ لا تهدي سبيلاً ولا تفتح أفقًا

في زمن تتسارع فيه التغيّرات الاقتصادية والتقنية والاجتماعية، لم تَعُد مجرّد المهارة كافية لضمان الاندماج الفعّال في سوق العمل. فكما تقول الحكمة الشائعة: «لا تُعْطِه سمكة، علّمه الصيد»، غير أنّ هذه المقولة تبدو منقوصة إن لم نجد "بحرًا" يصطاد فيه المتدرّب. فالمهارة دون سياق تُشبه بوصلة بلا خريطة؛ لا تهدي سبيلاً ولا تفتح أفقًا. من هنا، تبرز أزمة جوهرية في منظومات التعليم والتدريب التي تُنتج "خبراء" قبل أن تُحدّد أين يمكن استثمار خبراتهم.

غاية التعليم: من المعرفة إلى الفعل

كل منظومة تعليمية أو تدريبية تنطلق من افتراض فلسفي أساسي، يُعرف في الفكر الإغريقي بمفهوم «التيلوس» (Telos): أي الغاية. هذه الغاية هي تحويل المعرفة إلى قدرة فعّالة تُحدث أثرًا ملموسًا في الواقع. لكن حين يتم تعليم مهارات لا يطلبها السوق، تصبح هذه المعرفة عبئًا لا أداة، وتنتج ما يمكن تسميته بـ«القدرات المعطّلة»؛ أي كفاءات لا تجد موضوعها ولا موطئ قدم لها.

المهارة بدون سياق، كالصيد في الصحراء ..

المهارة بدون سياق، كالصيد في الصحراء ..

ثلاث مشكلات جوهرية

هذا الانفصال بين المهارة والسياق يخلّف آثارًا عميقة على مستويات عدّة:

  1. اقتصاديًا: يؤدي إلى هدر فادح في الموارد، وارتفاع في نسب البطالة الهيكلية، بسبب فجوة المهارات بين ما يُدرّس وما يُطلب.
  2. اجتماعيًا ونفسيًا: يفضي إلى الإحباط وتآكل الثقة في قيمة التعليم، ويحفّز هجرة العقول نحو أسواق عمل بعيدة تتيح استخدام تلك المهارات المُهمّشة في أوطانها.
  3. أخلاقيًا وعدليًا: يشعر المتدرّب بخيانة ضمنية لعقد اجتماعي غير مكتوب، وُعِد فيه بأن "اتبع المسار، تصل إلى العمل"، ليكتشف لاحقًا أن الطريق مسدود.

لماذا يحدث هذا الخلل؟

ترجع جذور الأزمة إلى عدد من الأسباب البنيوية:

  • تعليم يسبق الواقع بدل أن يستشرفه: ما زالت المناهج تُبنى على تصوّرات الماضي، بدل أن تستبق تحوّلات المستقبل المتسارعة.
  • تضخّم الشهادات (Credentialism): أصبحت الشهادات هدفًا بحد ذاتها، وتحوّلت إلى رموز شكلية، تُكافَأ على أساس العلامة لا على أساس القيمة الفعلية.
  • انفصال العرض عن الطلب: كثير من الجامعات ومراكز التدريب تُنتج ما تجيد إنتاجه، لا ما يحتاجه السوق فعلاً، فترتفع الفجوة بين المؤسّسة والمجتمع.
  • ضعف ذكاء سوق العمل: لا تتوفّر بيانات دقيقة ولا آليات تغذية راجعة سريعة تُرشد العملية التدريبية، ما يُشبه الإبحار في بحر بلا خرائط.

نحو مقاربة فلسفية عملية

لمعالجة هذا الخلل البنيوي، لا يكفي إصلاح الأدوات، بل ينبغي إعادة التفكير في الفلسفة الكامنة وراء التعليم والتدريب. وهنا يمكن الاستفادة من ثلاث مقاربات فلسفية حديثة:

  • براغماتية جون ديوي (John Dewey): تَقيس صدق الفكرة بقدرتها على إحداث أثر عملي. فالتدريب الحقيقي هو ما يُنتج أثرًا ملموسًا في السوق، لا ما يُراكم معلومات منقطعة عن الواقع.
  • مقاربة القدرات لأمارتيا سِن (Amartya Sen): لا تكمن القيمة في المهارة نفسها، بل في "القدرة على الفعل". فإذا لم تُفتح أمام المتدرّب مسارات لاستخدام مهاراته، فإننا لم نُوسّع قدرته الفعلية، مهما أغرقناه بالمحتوى.
  • عدالة جون راولز (John Rawls): توزيع فرص التعلّم يجب أن يُسهم في تقليص التفاوتات لا تكريسها. وتكافؤ الفرص لا يعني إتاحة المسار للجميع فحسب، بل ضمان أن هذا المسار يقود فعلًا إلى وجهة واقعية.

خلاصة

لا يكفي أن نُعلّم الصيد، بل لا بد من أن نرسم خريطة البحار، وأن نُتيح الوصول إليها. إصلاح منظومة التعليم والتدريب يبدأ من سؤال الغاية: لماذا نُعلّم؟ ولمن؟ وفي أي سياق؟ فحين يُصبح التعليم متّصلًا بحاجة المجتمع، ويُقاس بمعياره الواقعي، لا الرمزي، آنذاك فقط يمكن القول إننا نُنتج "قدرة" لا مجرّد "شهادة".

مشاركة
نشرة خارج الصندوق البريدية

نشرة خارج الصندوق البريدية

نشرة دورية تصدر كلّ يوم سبت، يصدرها د. فادي عمروش تتضمن فكرة خارج الصندوق مع اغناءها بالروابط وما بين الكلمات، لتقول وجدتّها

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة خارج الصندوق البريدية