لا ترفع الدوبامين بهُراء "فكرتك العظيمة"!

31 أغسطس 2025 بواسطة د. فادي عمروش #العدد 141 عرض في المتصفح
إنّ قيمة الفكرة، دون اختبار أو تنفيذ، لا تتجاوز في أفضل الأحوال دولاراً واحداً، على حدّ تعبير الرائع ديريك سيفرز (Derek Sivers).

تحياتي

وبدون مقدمات، إنّ انبهارنا المفرط بما نعتقد أنّها "أفكار عظيمة"، ونخشى مشاركتها أو تسريبها، ليس سوى وهم نعيشه ونشوة مؤقتة نرفع بها مستوى الراحة النفسية ونزيد من إفراز الدوبامين، دون أي جهد حقيقي يُبذل. يشبه هذا ما يفعله بعض الأهل حين يقولون: "ابني ذكي وعبقري، لكنه لا يدرس، ولو درس لكان الأوّل على المدرسة، ولكن مشكلته الوحيدة أنّه لا يدرس، رغم عبقريته وإبداعه!"، في محاولة لرفع الدوبامين بمجرد القول، لا بالفعل.

وبكل صراحة، بل ووقاحة إن لزم الأمر، لا يمكن تقييم أي فكرة أو التنبؤ بإمكانية تنفيذها دون اختبارها فعلياً. ستظلّ عظمتها مجرد حلم يلامس مشاعرك، لا أكثر. ستبقى تحلم بأنّك شخصٌ رائع يملك أفكاراً رائعة، وينقصه فقط المال لتنفيذها، فتمضي أيامك متلذّذاً بهذه الفكرة، خائفاً من أن "يلطشها" أحد، متوهّماً أنّك تملك كنزاً ثميناً.

لقد عشتُ هذه الحالة شخصياً مراراً. ناقشتُ بعض المقرّبين بفكرة كنت أظنّها عظيمة، وقد نالت إعجابهم، فالإشادة دون التزام أو تمويل تظلّ كلاماً مجانيّاً. قالوا إنها ستغيّر السوق، فحلّقتُ معها لأشهر، حالماً ومطمئناً أنّها لا تنقصها سوى المال والتفرغ. صرفتُ ساعات طويلة أتخيّل العوائد الهائلة حين تُنفّذ.

وفي يومٍ من الأيام، قرّرتُ التقدّم بها إلى مسابقة عالمية، وأنا على يقين أنّني سأتأهل بسهولة إلى الدور النهائي. والنتيجة؟ لم تتأهل حتى إلى الدور الثاني، ولم أتلقَّ أدنى اهتمام أو إشادة، ناهيك عن التأهّل.

الحقيقة أنّ الأفكار غير المختبرة لا تختلف عن تضييع الوقت في المقاهي. الاختبار هو ما يصنع القيمة؛ يتطلب بناء نموذج أولي، واختبار الزبائن، وجمع آراء مستقلّة، والمشاركة في المسابقات والعروض لتلقي تقييم حقيقي من المحكّمين والخبراء. ما دون ذلك، هو مجرّد وهم لإرضاء الذات، لا أكثر. بل خسارة صافية، لأنك بذلك ترفع الدوبامين بلا أي إنجاز، كما يفعل متعاطو الماريجوانا (Marijuana).

إنّ قيمة الفكرة، دون اختبار أو تنفيذ، لا تتجاوز في أفضل الأحوال دولاراً واحداً، على حدّ تعبير الرائع ديريك سيفرز (Derek Sivers).

نعم، دولارٌ واحد. لا تغضب.

الفكرة أشبه ببذرة، قيمتها لا تتجاوز الدولار ما لم تُروَ وتُختبَر وتُرعَ بالعناية الكافية. تحتاج إلى وقت وجهد وموارد، وإلى عمليات تطوير متكررة حتى تتحوّل إلى نموذج ربحي قابل للاستدامة، حينها فقط تبدأ قيمتها بالظهور.

إذا كانت لديك فكرة "عظيمة"، ولكنك لا تملك الوقت أو الاستعداد لبذل المال والجهد فيها، فلعلّ من الأفضل أن تُشاركها علناً وتترك للآخرين فرصة العمل عليها واختبارها. وإن كنت فعلاً ذا قيمة مضافة، فسيعودون إليك.

ما يُثير حنقي حقاً، هو من يدّعي أنّ لديه فكرة تساوي عشرات الآلاف من الدولارات، ثم يرفض استثمار ألف دولار فقط فيها! إذا لم تكن أنت، صاحب الفكرة، مؤمناً بها بما يكفي لتستثمر فيها، فكيف تتوقع من الآخرين أن يقتنعوا بها؟

كيف تدّعي أنّ فكرتك ستُدرّ مليون دولار، وأنت لا تملك الجرأة لاستثمار مئة دولار فقط عليها؟

وقد يقول قائل: "لكنني لا أملك ألف دولار". والجواب الصريح؟ لا يهم المستثمر. إذا كنت تؤمن فعلاً أنّ فكرتك تساوي ذهباً، فستقتطع من طعامك وشرابك لتعمل عليها، بدلاً من التبجّح بها دون فعل.

وعلى صعيدٍ آخر، فإنّ وقتك هو استثمارك الحقيقي. الوقت مال. عندما تخصّص وقتك لفكرتك، فهذا يوازي راتباً غير مدفوع. إذا عملتَ على فكرتك نصف دوامٍ لمدّة سنة، فذلك يعادل آلاف الدولارات التي لم تُدفع لك نقداً.

والأغرب من ذلك، من يصرف وقتاً طويلاً على فكرته، لكنه يرفض إنفاق المال عليها. تجده مثلاً يكتب كتاباً لأسابيع، ثم يتردد في دفع ثمن تصميم غلاف أو تدقيق لغوي لا يتجاوز 200 دولار! كأنّه لا يدرك أنّه أهدر بالفعل مئات أو آلاف الدولارات من وقته الثمين. بل في كثير من الأحيان، يكون من الأكثر عقلانية أن تستثمر مالياً في فكرتك، لا وقتياً، إلا إذا كان وقتك لا يساوي شيئاً!

في الختام، إذا أردتَ رفع الدوبامين دون تعب، فشجّع فريقك المفضّل، فذلك أصدق وأكثر فائدة من إزعاج الآخرين بهُراء "فكرتك العظيمة" التي تخشى سرقتها!

فاصل فني

فاصل فني

Shukri‪Emad alhmzy‬‏رنيم اللحام4 أعجبهم العدد
مشاركة
نشرة خارج الصندوق البريدية

نشرة خارج الصندوق البريدية

نشرة دورية تصدر كلّ يوم سبت، يصدرها د. فادي عمروش تتضمن فكرة خارج الصندوق مع اغناءها بالروابط وما بين الكلمات، لتقول وجدتّها

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة خارج الصندوق البريدية