القضيّة أعقد من مجرد خلق وظائف جديدة مع الذكاء الاصطناعي

23 نوفمبر 2025 بواسطة د. فادي عمروش #العدد 157 عرض في المتصفح
إذا لم نُعِد بناء أنظمتنا بسرعة، فسنخلق مستقبلًا يُقال فيه: الوظائف لم تختفِ… لكنها لم تكن لنا."

في كل مرة يُثار فيها الجدل حول تأثير الذكاء الاصطناعي على سوق العمل، يُعاد تكرار الجملة ذاتها كعبارة إنقاذية:"لا تقلقوا، فالتقنيات الجديدة ستخلق وظائف أكثر مما تُلغي."

هذه المقولة، ورغم صحتها من منظور إحصائي ضيّق، إلا أنني أعتقد أنّها تُبسّط بشكل مخلّ تحوّلًا اقتصاديًا واجتماعيًا شديد التعقيد.فالواقع لا يُقاس فقط بصافي عدد الوظائف الجديدة مقابل تلك التي تختفي، بل بمن سيشغل هذه الوظائف، وبقدرة المجتمعات على مواكبة هذا التغير الجذري في الزمن المتاح والظروف القائمة.

قد تتحول الطمأنينة التي توفّرها عبارة "الوظائف الجديدة قادمة" إلى عامل تعمية أكثر من كونها تفسيرًا، لأنها تفترض أن الانتقال بين القديم والجديد سيكون تلقائيًا وسلسًا — في حين تشير المعطيات إلى أن ما نواجهه هو أزمة انتقال مهاري واجتماعي، لا مجرد تعديل في توزيع فرص العمل.

الواقع كما تصفه الأرقام

تقرير مستقبل الوظائف 2025 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي (World Economic Forum) يقدّر أنه بحلول عام 2030:

  • سيُخلق نحو 170 مليون وظيفة جديدة،
  • في مقابل 92 مليون وظيفة ستُلغى أو تتغير جذريًا،
  • ما يعني صافي نمو بنحو 78 مليون وظيفة حول العالم.

هذه الأرقام تُستخدم غالبًا بتبسيط لإثبات أن "الذكاء الاصطناعي لا يُدمّر الوظائف بل يُعيد تشكيلها". وهي صحيحة في سياقها، لكنها لا تروي القصة كاملة.

فرص جديدة ، لكن هل حقاً لنا؟

فرص جديدة ، لكن هل حقاً لنا؟

من سيشغل هذه الوظائف؟

لعلّ السؤال الأهم ليس كم وظيفة ستُخلق، بل من سيتمكن من الوصول إليها. فالوظائف الجديدة لا تُعد نسخًا محدثة من الوظائف القديمة، بل تختلف عنها في جوهرها:

  • تتطلب مهارات رقمية متقدمة،
  • تفترض معرفة بأساسيات الذكاء الاصطناعي والتحليل البياني،
  • وتستدعي عقلية قادرة على التعلم المستمر والعمل ضمن بيئة سريعة التغير.

الغالبية العظمى من العاملين الحاليين لا تملك هذه المهارات بعد، ولا تملك الأدوات أو الفرص الكافية لاكتسابها بسرعة.

على صعيد آخر، يشير تقرير ماكنزي (McKinsey) حول التحولات في سوق العمل إلى أن ملايين العاملين سيحتاجون إلى إعادة تدريب جذري، وإلا فإنهم سيخرجون من السوق، لا بسبب نقص الوظائف، بل بسبب اتساع فجوة الكفاءة.

أزمة مزدوجة: بطالة من جهة، ونقص كفاءات من جهة أخرى

هنا تتجلّى المفارقة:

  • من جهة، ترتفع معدلات البطالة بسبب زوال وظائف تقليدية،
  • ومن جهة أخرى، تظهر وظائف جديدة لا تجد من يشغلها.

أي أننا نعيش حالة فائض بشري ونقص مهاري في آن واحد.وهو ما يعني أن الأزمة ليست في "فقدان الوظائف"، بل في عدم تطابقها مع من يبحثون عنها.

الوظائف موجودة، لكن مَن يُناسبها غير موجود بعد.والناس موجودون، لكن الفرص المناسبة لهم لم تُخلق أو لم تُصمم لتناسبهم.

الفائزون الجدد: من يمتلك المهارات، لا من يمتلك الخبرة

في هذه الدورة الجديدة من التحوّل ، لا تذهب الأفضلية لمن راكم سنوات من الخبرة في وظيفة تقليدية، بل لأولئك الذين دخلوا السوق بمهارات مناسبة منذ البداية.الفئات المرشحة للظفر بالفرص الجديدة تشمل:

  • شبابًا يمتلكون خلفيات تقنية وعقلية مرنة،
  • أفرادًا تلقّوا تدريبًا حديثًا ضمن برامج مؤسسية،
  • فئات اجتماعية لها وصول أسهل إلى أدوات التعليم والتقنية.

وبالتالي، تتحوّل الوظائف الجديدة إلى مكسب اقتصادي غير عادل، لأنه لا يصل تلقائيًا إلى من خسر وظائفه، بل إلى جيل مختلف أو طبقة مهارية مختلفة تمامًا.هذا التفاوت لا يُعد فقط فجوة في سوق العمل، بل تهديدًا للسلم الاجتماعي نفسه.

ليست المسألة "هل ستختفي الوظائف؟" بل "كيف ستتغير؟"

تقدير غولدمان ساكس (Goldman Sachs) يشير إلى أن تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي قد تُؤثّر على ما يصل إلى 300 مليون وظيفة عالميًا، بدرجات متفاوتة من الأتمتة.لكن التقرير يوضح أن التأثير سيكون غالبًا عبر إعادة تشكيل المهام، لا الإلغاء التام للوظائف.

"This isn’t about jobs disappearing entirely — it’s about jobs being redefined by technology, with tasks being automated, not whole professions being erased."

المعنى هنا بالغ الأهمية: لم تعد المسألة هل سيبقى للإنسان دور؟ بل كيف سيتغير هذا الدور، وبأي سرعة يستطيع الإنسان مواكبة هذا التغير.

التحول قادم… لكن هل نحن مستعدون؟

الاستعداد لهذا التحول لا يعني قبول مصير لا يمكن تغييره، بل التحرك الاستباقي لإعادة هيكلة أنظمة التعليم، والتدريب، والتوظيف.ومن دون هذه الاستعدادات، سنواجه سيناريو تتسع فيه الفجوة بين الوظائف والمهارات، وتتشكل فيه سوق عمل ثنائية:

  • سوق متقدمة مدفوعة بالبيانات والذكاء الاصطناعي،
  • وسوق راكدة تضم من لم تُتح لهم فرصة التعلّم من جديد.

النجاة في هذا السياق لا تأتي من مقاومة التكنولوجيا، بل من تقصير المسافة الزمنية بين فقدان الوظيفة واكتساب المهارة الجديدة.وهذا يستدعي استثمارًا واسعًا من الحكومات والشركات، وشراكات مرنة مع مؤسسات التعليم.

الخلاصة:

صحيح أن الذكاء الاصطناعي سيخلق وظائف أكثر مما يُلغي، لكن هذا لا يعني أن التهديد مبالغ فيه.فالخطر لا يكمن في الأرقام المجردة، بل في:

  • سرعة التحوّل،
  • عمق الفجوة المهارية،
  • وتفاوت فرص الوصول إلى التأهيل المطلوب.

إننا لا نواجه "نهاية الوظائف"، بل "مرحلة مؤلمة من إعادة التوزيع".والسؤال ليس: كم وظيفة سنكسب؟ بل: من الذي سيُمنح فرصة البقاء والمشاركة؟

إذا لم نُعِد بناء أنظمتنا بسرعة، فسنخلق مستقبلًا يُقال فيه:

"الوظائف لم تختفِ… لكنها لم تكن لنا."

مشاركة
نشرة خارج الصندوق البريدية

نشرة خارج الصندوق البريدية

نشرة دورية تصدر كلّ يوم سبت، يصدرها د. فادي عمروش تتضمن فكرة خارج الصندوق مع اغناءها بالروابط وما بين الكلمات، لتقول وجدتّها

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة خارج الصندوق البريدية