الرُّهاب الجديد: كيف خلق البعض عدوًا له يُسمَّى الذكاء الاصطناعي؟! |
4 يوليو 2025 • بواسطة د. فادي عمروش • #العدد 125 • عرض في المتصفح |
تحت هذه الطبقة من الازدراء والفضيلة الأخلاقية، هناك خوف أبسط وأكثر بدائية: الخوف من أن نكون قابلين للاستبدال!
|
|
تخيَّل أنك في مؤتمر، تلقي كلمةً متماسكةً، وتقول جملةً ذكيةً تلخِّص فكرةً معقَّدةً في ثلاث كلمات، فيهز الحضور رؤوسهم إعجابًا. لكن فجأة، يرفع أحدهم حاجبه ويصيح: «هل استعنت بـ تشات جي بي تي؟» فترتعش للحظات! فما كان قبل لحظة مدهشًا وعبقرياً، الآم صار ملوثًا. وكأنَّ في الأمر خداعًا أو خيانة، أو أسوأ من ذلك.. انعدام ثقة مثلًا! قد تكون حقاً قد استعنت بالذكاء الاصطناعي لترتيب أفكارك والعصف الذهني، وأجريت محاورات عديدة للوصول إلى جملةٍ ذكيةٍ، واستعنت بخبراتك لعشرات السنين لحثِّ النموذج اللغوي على إعطاء أفضل ما عنده، ولكن فجأة! كل ذلك سيذهب أدراج الريح مع أول تعليق، هل استعنت بالذكاء الاصطناعي! |
ما أخشاه حقًّا أن يبدأ هذا الجو بأن يخيِّم علينا الآن. صار البعض يعامل الذكاء الاصطناعي على أنَّه عار، كما لو كان اعترافًا بأنك لست كافيًا وحدك. ليس الأمر مجرَّد نقاش تقني أو أخلاقي، بل تحوَّل إلى لغةٍ اجتماعيةٍ، بل إلى وصمة اجتماعية خفية، لكنها حادةـ تبرِّر تقصير الشخص بأنَّه ليس مبدعًا ومنتجًا كغيره لأنه ببساطة لا يستخدم أدوات ذكية مثلهم! وهذه حجَّة كافية له لتبرير تقصيره، باتهام الآخرين بأن ما يقومون به هو عيب وعيب كبير. |
لست مضطرًا للرجوع إلى التاريخ لنتذكَّر أولئك الذين حطَّموا آلات النسيج خوفًا من فقدان وظائفهم. اليوم؛ التاريخ يعيد نفسه، لكن هذه المرة بأسلوب أقل مادية وأكثر معنوية، فالخوف من الذكاء الاصطناعي لا يتمثَّل فقط في «سيسرق وظيفتي»، بل في «سيسرق هويتي». لقد أصبح الاشتباه في استخدام الذكاء الاصطناعي بمثابة اتهام بالشح في الموهبة، أو الكسل، أو حتى الخيانة الثقافية! كأننا في سوق عتيقة للفضائل، يراقب فيها الناس نقاء ما تنتجه، ويبحثون عن أي إشارة تدل على أنه ملوَّث بمساعدةٍ آليةٍ. |
لعل أطرف ما في هذا الخوف هو أنه يختبئ أحيانًا في رداء الفضيلة. نقول إنَّنا نريد حماية الأصالة، أو الدفاع عن المبدعين المستقلين. في الواقع، يحضرني هنا وصف مالكوم جلادويل لها بأنَّها مفهوم متغير. كان الناس في القرن التاسع عشر يعتبرون البيانو في الصالونات علامة على «التكلف» الصناعي، مقارنة بالغناء الشعبي الشفهي، لكن اليوم صار البيانو قمة الرقي. كل وسيلة جديدة تبدأ كموضع ريبة، وكأنها نبتة غريبة في حديقة الثقافة. وبالمثل، نجد اليوم موجة من «نقاد الذكاء الاصطناعي» لا يكتفون بالتحذير من مخاطره المادية -مثل سرقة البيانات أو الإضرار بالبيئة- بل يضيفون نبرة أخلاقية: «عيب عليك». كأن استخدامه اعتراف بالفشل الشخصي في الكتابة أو التفكير. |
الطريف في الأمر أن الذكاء الاصطناعي لا يحتاج حتى إلى أن يكون مستخدمًا فعليًا كي يُتهم النص بالرداءة أو الكسل. يكفي أن ترى جملةً قصيرةً جدًا أو منمَّقة جدًا أو بها تشكيل باللغة العربية لتعلن أن هذا «روبوت كتبها». التهمة لا تحتاج إلى دليلٍ، والعار ينتشر بسرعةٍ. |
![]() صورة مع تشات جي بي تي لرسم الموقف في المقدمة ! |
افتح التعليقات الآن على أي محتوى وستجد كثيرًا من التعليقات التي يتذاكى أصحابها بالقول: «آه، واضح أنه مكتوب بالذكاء الاصطناعي»، يقول المعلق، ليس كمعلومة، بل كإهانة خفية. السخرية هنا ليست مجرد نقد للأداة، بل هجوم على الشخص نفسه، نزع للصفة الإنسانية عن عمله. «لست أنت من كتب هذا»، وبدل التركيز على المعلومة يركز البعض على السؤال، ما هي الأداة التي استعنت بها؟ |
لكن تحت هذه الطبقة من الازدراء والفضيلة الأخلاقية، هناك خوف أبسط وأكثر بدائية: الخوف من أن نكون قابلين للاستبدال. يهدِّد الذكاء الاصطناعي التوليدي شيئًا أعمق وهو: الوهم بأننا وحدنا من نمتلك القدرة على الصياغة، والتلخيص، والبلاغة. وعندما يظهر أن آلة تستطيع ذلك، فإننا نرد بإعلانه «عيبًا»، كي نحمي كبرياءنا. |
وبينما ينشغل البعض في إثبات فشل التقنيات الجديدة وخلق حرب مثل دونكيشوت ضد طواحين الهواء؛ يقبل آخرون على التبني المبكر وزيادة مبيعاتهم، وبين هؤلاء وأولائك ثمَّة فرق كبير. |
دمتم مبدعين باستخدام الذكاء الاصطناعي |
فادي |
التعليقات