صوت الصَّمت

6 مارس 2025 بواسطة هناء. #العدد 3 عرض في المتصفح

الصَّمت أيضاً لغة، لغة تفهمها القلوب وتُدركها الأذهان، وللصمت صوت، صوتٌ أبلغ من الكلمات وأصدق من الرسائل المغلفة بالأحاسيس. صوتٌ ينبض بإيقاع الحياة، حاضرٌ في مختلف الأزمان والأحداث، قد يكون عذبًا أو مريرًا، لكنه في كل الأحوال لا يغيب. ما الذي يميز هذا الصوت العميق عن غيره؟ إنه يتجلى على صاحبه ويفرض سطوته كأمواج البحار الصاخبة على سطح ساكن، حيث يتردد أثره من غير إفصاح، ويحمل قوة وتأثيرًا أبلغ من الحديث. به تُكتسب مراتب لا تُنال بالتصريح، ويبعث في النفوس احترامًا وتقديرًا، كما يفتح مدارك العقل ويوقظ الوعي.

وللصمت وجه آخر أنه صوتٌ داخلي، كلماتٌ هادرة، رسائلٌ مقيَّدة، وصرخاتٌ مدوية، لكنها تبقى صراعاتٍ ساكنة، ليس شرطًا أن يكون بهذا الثقل؛ فقد يأتي عن رضا تام وسريرة صافية، فيترك صدى صوته بهجةً على محيّاه. لكن ذلك يعتمد على مشاعرنا في تلك اللحظة، وكيفية استقبالنا للمواقف. إن تصدَّيناها بقلوبنا، فسوف تذوب ذواتنا، وتخور عزائمنا، وتتبعثر أفكارنا، وتتعثر مشاعرنا، فنغرق في دوامة الصمت، مكبلين بالضعف والقهر، وننهمك في أسئلة لا معنى لها! وقد تلاحقنا الحسرة لفترات طويلة، متمنّين لو تعاد تلك اللحظات للدفاع عن أنفسنا.

ولكن إذا واجهنا ما نمر به بعقولنا، ستكون ردود أفعالنا أكثر اتزانًا ومنطقية، لأننا في جميع الأحوال، سنلتمس الأعذار، حتى وإن لم تكن بمفاهيم تطابقنا. حينها، سندرك أن عقولنا أكبر من أن تنحرف إلى مسارات الغير، وتخوض في جدالات باطلة، أو تُوزن بمقاييس الآخرين.

هل نختار الصمت طوعًا أم كراهية؟!

حين نغمد ألسنتنا لدافعٍ تقتضيه الحكمة أو البصيرة، أو إدراكًا بأن الجدال عقيم، يكون الصمت قوة نابعة عن إرادة خالصة، وملاذًا نرتقي به. وكثيرًا ما نختار الصمت، لا عجزًا عن المواجهة، بل عن إدراك واعٍ بأن الطرف الآخر قد يكون أسير ظنونه، مطموس المنطق قبل أن يتلقاه، أو ربما نصمت احترامًا لمن نناقشهم، أو حفاظًا على سلامة صدورنا، لأن الصمت في بعض المواقف ليس هروبًا، بل درعٌ يحفظنا من الجدل الذي لا يُرجى منه سوى استنزاف المشاعر.

ولكن حين تُلجم ألسنتنا، وتضطرب دواخلنا، وتختنق أنفاسنا، ونغرق في كلماتنا حتى نخبو عجزًا وغُبنًا، ليس خشيةً من البوح، بل خوفًا من القمع، وإدراكًا بأنَّ الواقع لن يتبدَّل بحديثنا، تشتدُّ وطأة المشاعر السلبية، فتجرفنا كالأعاصير، وتضجُّ رؤوسنا بطنينٍ يملأ الفراغ، وتشُدُّنا القيود من كل اتجاه بلا مخرج، فتندلع في سرائرنا شرارةٌ لاذعة، وكأنَّ الموقف يُجبرنا على ابتلاع ألسنتنا، فيرتبك وجداننا، وتتعثَّر ملامحنا، حتى نكاد نصدّق أننا المذنبون في قضيةٍ زائفةٍ لا أصل لها.

ومع ذلك، بإمكاننا أن نحوِّل هذا الخنوع إلى سكينةٍ وجلال، لأنَّ الصمت، في جوهره، سموٌّ ورفعة، وهو دلالة على نضج صاحبه، وإن كان يملك سلطان الردّ، فيمنح حضوره هيبةً ووقارًا رغم هدوئه العميق. حتى إنَّ شخصيات الناس باتت تُقاس بهدوئهم وسكونهم، بل إنَّ للصمت مكانةً رفيعةً في الإسلام، وقد عظَّمه أهل العلم والحكمة، وأجله أرباب القلم، فكان في صمتهِم من البيان ما فاق كثيرًا من الكلام.

إن كنَّا نُضطرُّ إلى الصمت، فما مصير الرَّسائل التائهة؟ ولماذا نخشى الإفصاح عنها؟

قد لا يحتاج الصمت إلى حروف، لكنه يضجُّ بالكثير ممَّا يتوق إلى التحرر، فهي رسائل عالقة في الصدور، تأبى الركود أو الانسياب، فتجد طريقها للتجسد في أفعالنا، تنبض في نظراتنا، وتنحت أثرها في ملامحنا، حاضرة رغم غياب الكلمات، تتقلب وتتداخل، تبحث عن منفذ حتى تخمد في مأوىً مؤقت، لكن سرعان ما توقظها مواقف عابرة أو ذكريات سالفة، فتعيد رفرفتها من جديد، مؤكدة أنها لن تبقى حبيسة القفص أبدًا. وهكذا ننجرف في الدوامة ذاتها مرارًا، ومع مرور الزمن تكبر تلك الرسائل معنا، فتخلق فجوة في أعماقنا، نخزن فيها ما عجزنا عن البوح به في حينه. تصبح تلك الرسائل المكتومة رسائل إلينا، وخبرات تصقلنا، تمامًا كأوراق الشجر المتراقصة، تتقلب عليها الفصول، فتمتلئ حينًا، وتذبل حينًا، وتجف وتتساقط حينًا آخر، كرسائل الزمن المناجية، قد تبدو في ظاهرها مكتملة، لكنها تظل ناقصة في أصلها.

قد تفقد بريقها إن أفصحنا عنها بطريقة لا تليق بها، أو في غير موضعها، أو أمام من لا يدرك قيمتها، فلا يمجدها ولا يمنحها حقها. حينها، تفقد معناها وتتكدس الصفحات بدل أن تنطلق إلى النور وتتبدد.

الكتابة تحرر الصمت الهامس، تمنح الإنسان جناحين خفيفين يحلق بهما بعيدًا عن عتمة الكتمان، وتبدله من طقس عاصف إلى أفق مغمور بألوان الطيف النابضة، هي الخيط الواصل بين الصمت وأعماقه، فلا خوف يعجزه عن التعبير، ولا رهبة تكبح صوته،الكتابة تحرر القلوب وتعيد النبض إلى شرايينها.

إلى القلوب العذبة: الصمت فن لا يدركه إلَّا أصحاب العقول النَّيرة. 

هناء.1 أعجبهم العدد
مشاركة
رحلة بين دفء العواطف ونبض التعبير.

رحلة بين دفء العواطف ونبض التعبير.

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من رحلة بين دفء العواطف ونبض التعبير.