في أحضان الطَّبيعة |
5 مارس 2025 • بواسطة هناء. • #العدد 1 • عرض في المتصفح |
|
|
هل تساءلت يومًا لماذا يجد الإنسان راحته التامة في الطبيعة؟ بين الأشجار العتيقة والسهول الفسيحة، وعند الأنهار العذبة والجبال الشاهقة، طبيعة المرء أنه ينتمي لكل هذا الجمال ولكل التفاصيل الكامنة في الطبيعة. نحن بشكل أو بآخر جزء من الطبيعة والطبيعة جزء منا وفينا. هناك جماليات لا توجد بل لم تُخلق إلا في عالم الطبيعة الواسع. مدهشة ومبهرة تفاصيل تذهل النفوس؛ كألوان الغروب المتدرجة حيث تعكس الهدوء والسكينة، كقطرات الندى على بتلات الزهور، كزهرة المطر التي تتحول إلى الكريستال المتلألئ تحت رذاذ المطر، كترانيم الطيور فوق أشجار الصنوبر، كسنجاب البراري العابث في الأرجاء ليبرز حيوية الطبيعة. |
قد تكون الطبيعة ملجأً بعد الله، فمن منا لا يهرب إلى أحضان الطبيعة؟ من ضجيج الحياة وصخبها، من ثقلها وعبئها؟ فيتفكر في آيات الله بتأمل مخلوقاته العظيمة ويستمد الراحة والطمأنينة من ألوانها الخلابة وصلابتها التي تجسد عظمة خالقها. هناك حيث تنعشه النسائم الدافئة ويتوهَّج كيانه مع أنفاس المطر، وتناديه كل زاوية للإقبال عليها واستنشاق شذاها ليتدبر جمال هذا الكون. الطبيعة الآسرة مصدر إلهام للقلوب والعقول معًا؛ فمن جوفها تتولد الأفكار وتشرق المشاعر. |
تخيل أن تجلس تحت ظل شجرة وارفة، في سكون تام، تستمع إلى همسات بحيرة تطل على ناظريك, قد تصل إلى مسامعك أصوات طيور شتى مختلفة الألوان والأشكال، وربما يمر من بين قدميك حيوان صغير ظريف, إن رفعت نظرك، وجدت السماء الرحبة، وإن التفت حولك، رأيت جمالًا يعانق ذاته. بربك، ماذا تتوقع أن ينبثق في داخلك؟ |
من المعروف أن الفنانين سابقًا كانوا يستوحون الفن من الطبيعة الغناء والبراري الخضراء والبحار الهادرة, اللوحة مرآة فنانها، وكذلك الطبيعة مرآة تعكس أسرار قلوبنا, قد يجسد الفن مشاعر الطبيعة! ذلك برسم غضب العواصف الهوجاء حين تضرب السفن في قاع المحيط أو رسم رفرفة فراشة بهية على أزهار نقية، أو ربما في رسم هدوء الإوز على بحيرة راكنة، مشاعر الطبيعة هذه تمثل مشاعرنا. |
الطبيعة لا تُلهم فقط بل تعطي دروسًا وتعلم حكمًا بليغة, أنا أرى أن الإوز هو أنسب صورة في تجسيد الرزانة والحنكة والولاء النادر والعطف، بل إنها تقدس الحب وتخلص في عطائه! الطبيعة كلها تحمل دروسًا خفية لا يمكن إدراكها إلا بالبصيرة. |
لا أنسى رحلتي مؤخرًا إلى قلب الطبيعة حتى أن الناس كانوا يطلقون عليها “الجنة”, رأيت عالمًا آخر منفصلًا تمامًا عن عالمي السابق, صدقًا، تاهت نفسي في سحر المكان، فكل شيء كان يدعوني لتأمله, المناظر أخذت أنفاسي، ولو أنني تُركت هناك في بقعة واحدة طيلة عمري لما مللت. رأيت أشجار الثمار والجبال الخضراء التي تجوبها الأغنام والأبقار آكلةً من نعيمها، وتهرول الخيول تارةً وتعدو تارة، وتنساب الأنهار من كل جانب مصدرةً هديرًا عالياً تحذرك من الاقتراب. لم تكن المنطقة خالية من الأمطار الهادئة نهارًا، يصحبها ضباب مكتنف محصورًا في الأعالي، مما يضفي لمحة ساحرة على المكان. |
هذا لا يضاهي ولو بصيصًا مما أبصرته عيناي! كانت أول مرة لي أشاهد فيها هذا الكم الهائل من المخلوقات العظيمة والبديعة, امتلأت الجبال المشجرة بالبيوت المتجاورة مكونة فسيفساء تشهد على عراقة المكان وبهائه, لذا كانت الفراشات المختلفة الأحجام والألوان تدلف إلى منزلك فجأة فتتنبأ عن دخول أرق وأخف ضيف قد يمر على أحد, أتذكر جيدًا الفراشات الفريدة اللاتي كن يتهافتن عليها أخواتي ويقلن: “ها قد أقبل علينا سر من أسرار الطبيعة” صدقن في وصف الفراشات الناطقات بألوان الحياة. |
مشهد السماء في الواحات الغنَّاء يملؤنا بإحساسٍ سرمدي من المتعة الخاصة، تراها في ألوان متناغمة عند بزوغ الفجر وتمزج بانسيابية عند بداية الصباحات المشرقة مع طلوع أشعة الشمس، حيث تجسد الدفء وتُشعل آمالًا جديدة, تبدأ تسابيح الطيور ورفرفتها عاليًا, كنت أنظر إليها من شرفتي فأرى أنواعًا نادرة لم يسبق لي أن سمعت عنها، حاولت مليًا استدراجها بفتات الخبز ولكنها أبت ذلك، أو ربما أنا من فشلت. |
في جوف الجبال هناك حيوانات برية كالخيول الجامحة، حيث تسمح لك برؤيتها وتمني امتطائها، لكن ذلك بعيد المنال, وهناك حيوانات لطيفة تأمل لو أنك تسرقها من موطنها, هناك أيضًا حيوانات لو أنك لمحتها أو بلغك زئيرها لوليت بالفرار, كانت هناك أدغال وغابات مظلمة تضفي على الجبال هيبة ووقار, في وضح النهار تبدو فاتنة، وفي وضح الليل تبدو عالمًا موحشًا يرتعب قلبك لو أنك أبصرتها من بعيد. |
الليل، وما أدراك ما الليل في رياض الطبيعة! إذ أنه لا ثالث بينكما: أنت والليل المزدان بضوء القمر ولفحات الهواء تتسلل عنوة، فتصبو في سماء المشاعر، تقطف من الأماني ما شئت، وتزرع زهراً حيث شئت. هكذا هي الطبيعة: عالم أدبي مغرٍ، تقرأ من الصفحة التي حملت مكنون قلبك. |
التعليقات