المدينة المتغيرة؛ ضجيج لا ينتهي

بواسطة مودة #العدد 10 عرض في المتصفح

أعود إلى مدينتي بعد غياب شهر، لأجدها قد انسلخت من جلدها القديم، وارتدت قناعاً جديداً لم أتعرف عليه. الحي الذي لطالما كان ملاذي الهادئ، تحول إلى ساحة صراع بين البنايات العملاقة تتسابق نحو السماء، غير آبهة بما تدوسه تحت أقدامها.

أشعر بالغربة وأنا أسير في شوارع لم تعد مألوفة. الهدوء الذي كنت أستنشقه مع هواء الصباح، استبدل بضجيج المكائن وأصوات البناء التي لا تهدأ.حتى الهواء الذي أتنفسه بات محملاً برائحة الإسمنت والغبار.

أين ذهبت تلك المساحات الشاسعة التي كانت تمد في الحي؟ أين اختفت تلك الأزقة الهادئة التي كنت أتجول فيها مساءً؟ تحول الحي إلى كتلة إسمنتية عملاقة، تبتلع كل ما هو جميل وهادئ.

السرعة التي تسرق الحياة

لم يتغير وجه المدينة فقط، بل تغير إيقاع الحياة فيها أيضاً. عدت من سفري لأجد نفسي محاصرة بسرعة جنونية. الأفكار تتسابق في رأسي، المواعيد تتزاحم في يومي، أشعر وكأنني في سباق ماراثوني لا ينتهي.

أحاول أن أقاوم هذا التيار الجارف، أحاول أن أجد مساحة للبطء والتأمل في حياتي. منذ عام حذفت تطبيقات التواصل الاجتماعي، قللت من ارتباطاتي، لكن شبح السرعة لا يزال يطاردني.

القرية في الجوار؛ نافذة على الهدوء

أبحث عن ملاذ للهدوء، فأجدها في القرية المجاورة. هناك، على بعد ثلاثين كيلومتراً فقط، يتوقف الزمن، وتتباطأ نبضات الحياة. أشعر بالسلام وأنا أتجول في شوارعها الهادئة، أتأمل بساطة البيوت، وأراقب الناس وهم يعيشون حياتهم بتناغم وبطء.

في القرية، أجد المتسع الذي أفتقده في المدينة. متسع للتفكير، متسع للحلم، متسع للعيش ببساطة وهدوء.

صراع لا ينتهي

أدرك أنني أعيش صراعً مريراً بين عالمين متناقضين. عالم المدينة الصاخب، وعالم حالم عن المدينة الهادئة. عالم السرعة الذي يفرض نفسه عليّ، وعالم البطء الذي أشتاق إليه.

لا أعرف كيف يمكنني التوفيق بين هذين العالمين، لكنني أعرف أنني بحاجة إلى إيجاد توازن بينهما. بحاجة إلى مساحة للهدوء والتأمل في خضم هذه الحياة الصاخبة.

الحقيقة التي لن يخبرك بها أحدا

المدينة تخفي وراء أضوائها اللامعة، وجوهًا كثيرة للحزن والضياع. إنها تخفي وراء صخبها صمتاً قاتلاً، ووراء سرعتها فراغً كبيراً.

المدينة لا تخبرك بالحقيقة، الحقيقة التي لن يخبرك بها أحد، هي أنك لست بحاجة إلى كل هذه السرعة، لست بحاجة إلى كل هذا الضجيج. أنت بحاجة إلى أن تجد مكانً هادئاً في داخلك، مكانً يمكنك أن تلجأ إليه كلما ضاقت بك المدينة.

أن تعيد التساؤل حول مكان العيش الكريم لم يعد ترفاً، هل ستجدها في مدينة صغيرة، أو ربما يكون مكانً آخر، المهم أن تجده، وأن تتمسك به، فهو طوق النجاة في هذا البحر الهائج.

بسمهذكرى أحمد2 أعجبهم العدد
مشاركة
نشرة مودة البريدية

نشرة مودة البريدية

هذه نشرة شخصية أكتبها للأصدقاء حول تأملات تلامس سعينا للحياة الطيبة، وأطرح التساؤلات التي تزعجني أو تلهمني للتفكر بها، أنشر يومي الأحد والأربعاء.

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة مودة البريدية