نشرة عبدالوهاب الصادق القايدي البريدية - العدد #4 |
26 مايو 2025 • بواسطة عبدالوهاب الصادق القايدي • #العدد 4 • عرض في المتصفح |
غلام القوم سيدهم
|
|
من الظل إلى الضوء |
في كل مشهد يسطع، ثمة ظلٌّ يُهمَل، رغم أنه أصل الصورة. فالضوء، في جوهره، لا يصنع الوجود، بل يكشفه. لكنه ـ في عالم تُحرّكه الخوارزميات وتتسلّط فيه عدسات اللحظة ـ كثيرًا ما يُسلّط على الفراغ، فيمنحه حضورًا لا يستحقه، وبريقًا لا يستمده من قيمة، بل من مصادفة. |
ذاك العامل، الذي وثّقت له العدسة مشهدًا عابرًا، لم يكن يطلب المجد، ولا يزاحم عليه. كان في الظل، حيث يمضي أكثر الناس أعمارهم، يؤدّون أدوارهم في صمت، وينسجون تفاصيل أيامهم بعيدًا عن الأضواء. غير أن الضوء ـ بعبثه الحديث ـ قرر أن يمرّ عليه، لا لأنه الأجدر، بل لأنه كان في زاوية التصوير حين مرّت موجة الضوء السريعة. |
وهنا يتجلّى السؤال: |
هل نحن من يسعى إلى الضوء لكوننا أهله، أم أن الضوء بات يُمنح بغير ميزان؟ |
في الأمس، لم يكن الضوء يُمنَح إلا عن جدارة: علمًا، أدبًا، فكرًا، نضالًا. أما اليوم، فقد يُخلَق من ضحكة مرتجلة، أو جملة مُفرغة، أو غرابة لا تشبه شيئًا سوى العبث. |
ومع هذا، لعلنا بحاجة إلى إعادة اكتشاف الظل. |
الظل ليس نقيضًا للضوء دائمًا؛ بل هو رحمٌ ينضج فيه الإنسان، وملاذٌ يحميه من الاحتراق السريع. من عاش في الظل طويلاً، أدرك أن الظهور المفاجئ ليس دومًا فضلًا، وأن التصفيق قد يكون خديعة. |
لكن ما يثير التأمل أكثر، أن من يُخرجه الضوء من الخفاء، لا يظل عند أطراف الصورة؛ بل يُقدّم إليه الميكروفون، ويُنتزع من الظل ليُجلس في صدر المجلس. |
غلام القوم سيدهم. |
عبارة قيلت قديمًا فخرًا، حين يتقدّم الشاب النابه قومه عن استحقاق، فإذا بها اليوم تُقال ـ بسخرية مبطّنة ـ حين يتصدّر المشهد من لا يحمل من أدوات السيادة إلا الحظ، ومن أسباب الظهور إلا محض صدفة. |
لقد أُفرغت السيادة من معناها، وصار الضجيج يعلو فوق المعنى، والفراغ يُجمَّل، والسطحية تُقدَّم كعمق، وكأننا في زمن يُقنع الناس بأن “الغرابة” كفاية، و”الانتشار” دليل نجاح. |
والمأساة أن المشكلة ليست في “الغلام”، بل في القوم. |
في جمهور يلهث خلف الضوء، لا يسأل عن جوهره، ولا يتبيّن إن كان نورًا… أم شررًا. |
في فلسفة الضوء، بريقٌ وانبهار، لكن فيه أيضًا احتراق. |
وفي فلسفة الظل، سترٌ وهدوء، لكن فيه أيضًا حكمة ونمو. |
فهل نُحسن اختيار من نضيء لهم الطريق؟ |
وهل نملك شجاعة التمييز بين من يستحق الضوء، ومن جاءه عابرًا دون عُدّة ولا أهلية؟ |
في زمن تباع فيه القيم بالمشاهدات، وتُشترى الشهرة برقصات الفراغ، يبقى السؤال معلقًا في ضمير كل مجتمع: |
هل نُصفّق لكل ما يلمع، أم لما يُضيء حقًّا؟ |
![]() |
التعليقات