نشرة خواطر مفكرة البريدية - العدد #19 إنشاء الأفكار الخلاقة عن طريق تطبيق أساسيات "التفكير النقدي" |
بواسطة عبدالعزيز ال رفده • #العدد 19 • عرض في المتصفح |
إنشاء الأفكار الخلاقة عن طريق تطبيق أساسيات "التفكير النقدي"
|
|
أعتقد أني وكثير من أبناء جيلي حساسون تجاه النقد، حتى وإن أبدينا رد فعل يوحي لمن ينتقدنا بأن رأيه مقبول وحسن، ولكن حقيقة الأمر بأن الانتقادات تلك ربما ستجعل النوم يطير من أعيننا، ليكون أنيسنا بدلا عنه الأرق الذي سيعيد ويكبر من شأن تلك الانتقادات ربما لليال عدة. |
آثار التراتبية |
في كتاب Outliers للكاتب مالكوم قلادويل، عرّج على مفهوم التراتبية وسطوتها على نشأة الفرد، ففي أكبر حوادث الطيران التي كانت في كوريا ١٩٨٠-١٩٩٠ م ومن خلال قطاع الطيران المدني، وبعد البحث المستفيض عن أسباب حدوث تلك الحوادث، وتفنيد تلك الأسباب المنطقية، والعقلية، واللغوية (للصندوق الأسود) توصلوا بأن الهيكلة التراتبية في الوظيفة ربما تجعل من الطائر المساعد في أن يرى خطأ صريحا وواضحا، لكن وللسطوة التراتبية لا يجرؤ على إبداء أي ملاحظة للكابتن الطيار الرئيسي والمسؤول عن الطائرة بهذا الخطأ والذي قد يعني موته الحتمي لعدم المبادرة جاعلة من الطائرات تسقط مخلفة معها مئات الضحايا. |
خلال مراحل التعليم من الابتدائية ونهاية بالجامعة، كان أكبر هدف للمؤسسة التعليمية حشو الطالب بالمادة العلمية، ولم تكن هناك أي نوع من أنواع مناقشة الافكار وإبداء الآراء تجاه أي مسألة، سواء كانت تلك المسائل علمية، أو ثقافية، أو حتى في الشأن الديني، لا زلت أتذكر خذلاني الكبير من قبل معلمي المفضل والذي كنت أظنه بعد والدي الأكثر علما في الكون، حينما قام بالرد على سؤال أحد الطلاب في مادة الجغرافيا بقول (ما أدري!!) هذه الكلمة جعلتني أعيد حساباتي وأنا في الصف الرابع الابتدائي كون معلمي وأبي كلاهما ليسوا أشخاص خارقين ليجيبوك على كل تساؤل يمر بخلدك ومتقبلا بعد ذلك بشريتهم في كونهم محدودي العلم. |
في المرحلة المتوسطة كنا نحتفل كثيرا بذلك الطالب الذي يسأل كثيرا، ولا يقصد بذلك أذية المعلم وإحراجه في الصف، ولكن لكون صديقنا يحمل لواء جميع الطلاب ممن هم خلفه في الصف لاسكات المعلم قليلا، وإلهاءه عن الدرس، وربما تأخره في المنهج، مما سيزيد من فرص سهولة الاختبار نهاية السنة الدراسية، بالاضافة لتحديد مضمون للمنهج يمكن بقية الطلاب الحصول على درجات عالية تزيد من فرص نجاحهم في المادة، دوما ما كان صديقنا يناقش المعلم مناقشة منطقية ومؤدبة، لا أزال أتذكر تلك الملحمة الجدلية التي نشأت بين صديقنا السؤول مع معلم حصة التاريخ حول نشأة السلطانة شجرة الدر، ويبدو من خلال الجدال تفوق صديقنا الطالب في حمل اللواء في كونه متقدم على المعلم لأنه شاهد في تلك الفترة مسلسل في التلفاز يحكي سيرتها، لينشب النقاش في تاريخ شجرة الدر، وعن مولدها، وكيفيه تقلدها للعرش، تلك المرة الوحيدة التي أرى فيها معلم يحاور طالبه بأدب دون أن يوبخه أو يلقي عليه إحدى تلك التعليقات السخيفة في إلتزام الصمت وعدم إثارة الجدل داخل الصف، تخيل بأني قضيت في التعليم خلال تلك المدة ما يقارب ١٠-١٢ سنة لم أرى فيها نقدا صريحا لفكرة تاريخية وجدلية في أصلها طوال مسيرتي التعليمية سوى تلك اللحظة فقط! |
في المرحلة الثانوية ربما كنت محظوظا كفاية لأن أنتسب لنظام تعليمي أشبه بالجامعي وذلك في حساب المعدل التراكمي منذ الصف الاول الثانوي مع إمكانية حذف وإضافة مواد تشبه تلك القوانين الجامعية، وقد درست تحت يد نخبة من المعلمين، فمن بين هؤلاء المعلمين كان هناك أحدهم في مادة الدراسات الاسلامية مميزا جدا في طرح الاسئلة، وإستثارة فضول الطلاب، بجعلهم يفكرون خارج الصندوق، وذلك بطرح مزيد من الاسئلة والتي ربما لا يوجد لها إجابة، مما يساعد في طريقة الفهم بشكل أكبر وأسرع، لم تطل تلك الفترة المميزة طويلا، فقد إنضم لدينا في الصف عدد من الطلاب ضعف ما كان عليه صفنا في ذلك الوقت بحجة عدم وجود معلمهم لظرف قاهر منعه من المواصلة في التدريس آنذاك، مما جعل اختلاط الحابل بالنابل إتخاذ المعلم قراره في إيقاف الاسئلة، والشروع السريع نحو إنهاء المنهج الدراسي! |
تشريع التساؤل في إطار الدين |
النشأة الخاصة للفرد لدينا هي في إطار التراتبية ويكون ذلك وفق مفاهيم (دينية/اجتماعية) في المقام الأول، ولذا يجب عليك وفق هذين المفهومين تقدير من هو أكبر منك سنا، وأعلم منك شهادة، وهنا لا بد أن أشيد بالجوانب الايجابية وفق هذين المفهومين كونها جميلة في احترام الكبير، وإجلال العالم، والنيل من خبراته وعلمه في آن واحد، وفي ذات الوقت سلبية لأنها تعني الطاعة العمياء وعدم الاعتراض حتى وإن كلف ذلك ربما أشياء لا تعوض بثمن، وهذا في ظني بأنه غير صحيح فنبي الله ابراهيم عليه السلام خاطب ربه في قوله تعالى : {وَإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْـمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260]. وهذا من الأدلة الصريحة التي تُشّرع حق السؤال حتى ولو كانت في الشأن الديني ولكن لا بد ألا تكون بصيغة تشكيكة بحتة، وأن تكون نية السائل هي البحث عن إجابة شافية وكافية، وعدم النيل من بعض الاسئلة الحساسة، والرغبة فقط في الإعتراض دون بذل جهد حقيقي وصادق، والأهم من ذلك وجود أساس علمي قوي ومتين للشروع في أسئلة كهذه للوصول لأجوبة مقنعة وصحيحة. |
هذه الذكريات القديمة والمختلفة، وبعد عدة قراءات مطولة في إطار المعرفة العامة، أو التخصصية، قادتني لأسئلة أخرى تتعلق بالتفكير النقدي، وعن كيفية تطبيقها، وفوائدها بعيد المدى في الحياة الواقعية. |
تعريف التفكير النقدي: |
التفكير الناقد (Critical thinking) هو عملية فكرية دقيقة، يتم من خلالها وضع المفاهيم وتحليل المعلومات التي تم الحصول عليها وتقييمها، سواء كانت تلك المعلومات التي تم الحصول عليها من خلال الملاحظة، التفكير، الخبرة، الاستدلال وغيرهم، وتقييم مدى دقتها واتساقها ووضوحها وملاءمتها وسلامتها.[١] |
متى ظهر مفهوم التفكير الناقد؟ |
يمكن أن يعود مفهوم التاريخ الناقد إلى 2500 عام مضت عند سقراط، الذي أثبت أهمية تحليل المفاهيم والاستدلال والبحث عن الأدلة، والتي تعد استراتيجيته "التساؤل السقراطي" هي أشهر استراتيجية تدريس خاصة بالتفكير الناقد، وتبعه تلميذه أفلاطون ثم أرسطو، أما في العصور الوسطى فقام مفكرين مثل توماس الأكويني بطرح التفكير الناقد في كتاباتهم. |
كيف تطور من مفهوم التفكير النقدي لديك؟ |
في محاضرة جميلة لبراين أوشيرو تحت عنوان (تشجيع التفكير النقدي بثلاث أسئلة) وهو المقيّم المختص بالتدريس المهني الاحترافي، وبعد رحلات طويلة قام بها ما بين دولتي الصين والولايات المتحدة، للاجابة على سؤال مهم وهو "كيف بإمكاننا جعل معلمينا أفضل؟"، لاحظ براين بأن طريقة التدريس ما بين أمريكا والصين مختلفة، فالطلبة الصينيون يكونون بأعداد كبيرة في الصف، مما لا يجعلهم يطبقون ما تعلموه خارجه، بينما أمريكا طلبتهم يكونون بأعداد أقل مع وجود مجموعات للمناقشة، مما يسهم في زيادة فرصة إمكانية تطبيق ما يتعلمه الطلاب خارج حدود الصف. |
هذه المفارقة ما بين الدولتين جعلته يخوض رحلة طويلة في التشجيع على التفكير النقدي، فنوعية الاسئلة الذكية، هي التي تمكن المراجع الدراسية في أن يبث فيها روح الحياة من جديد عن طريق الاسئلة الذكية والاستفزازية. |
يؤكد براين على أن الاسئلة يجب أن تمر بثلاث مراحل أساسية: |
1) سؤال (ما هو/هي؟) What |
- على سبيل المثال ما هي الأسباب الثلاث للتغير المناخي؟ |
- سؤال ماذا هو يعتبر الخطوة الاولى للتأسيس المعرفي والذي سيمكن الطالب من الاجابة عليه، مما سيجعله لاحقا مواجها لسؤالين آخرين مهمين في عمليته التعليمية. |
- سؤال (ماذا) هو في حقيقة الأمر خادع، لأنه يشعر الطالب بتفوق زائف، فعند الاجابة الصحيحة سيمر الطالب بمرحلة رضى مؤقت، ولكن لتحفيز التفكير النقدي لا بد من وجود مرحلة من "عدم اليقين" وهذا لا يمكن إلا عن طريق الاسئلة الصعبة ذات التراتبية الأعلى. |
- ٩٠٪ من الاسئلة هي من نوعية (لماذا؟) وهو يعتبر سؤال تراتبي أقل من نظرائه (الثاني، والثالث). |
2) سؤال (لماذا؟) Why |
- على سبيل المثال لماذا البعض يدعي بأن التغير المناخي هو أكبر تهديد بشري سيواجهه الجيل القادم؟ |
- هذا السؤال هو من نوعية الاسئلة ذات التراتبية الأعلى، والتي تحفز الطالب لأن يضع نفسه في موقف غير مريح، كأن يعبر عن رأيه، مما قد يسمح للآخرين في أن يحكموا عليه وربما في أن يتندروا بإجابته، وهي في العادة ليست صحيحة تماما، مما يجعلها ردود "غير يقينة" الاجابة، هذا السؤال سيمكن الطالب من البحث أكثر، وذلك من خلال طرح أسئلة أكثر من نوعية (لماذا!). |
- هذه النوع من الاسئلة يجب أن تستمر لما بعد قاعة الدرس، لأنها ستساعد الطالب في مواجهة الحياة الفعلية، وذلك كون الحياة الواقعية هي في الحقيقة أسئلة (غير يقينية) هي الأخرى. |
3) سؤال (كيف؟) How |
- على سبيل المثال، كيف عرفت كل هذه المعلومات عن التغير المناخي؟ وكيف في ظنك الحلول المناسبة للحد من التغير المناخي أو إصلاحه؟ |
- بهذا السؤال سيثير المعلم من تحفظ الطلبة، مما سيجعلهم في الوضعية الدفاعية لكل كلمة تم قولها في الصف، وربما زيادة التعاطف ما بين الطلبة في تأكيد وجهة نظر الزملاء في الصف مع بعضهم البعض. |
إذن كما يقول براين يجب أن تكون الاسئلة على ثلاث مراحل (ما هو؟) ليكون هو نقطة الانطلاق، ثم (لماذا؟) لاستثارة الطلبة ودفعهم لمنطقة غير مريحة "وغير يقنية الاجابة" وأخيرا بسؤال (كيف؟) لإيجاد الحلول المناسبة، وجعل العملية التعليمية تندفع خارج حدود الصف، وذلك لمواجهة الحياة الواقعية والتي هي بطبيعتها تحمل في طياتها أجوبة (غير واضحة) تجعل الطالب مستعدا لحياته المستقبلية وذلك من خلال إجادة خطوات التفكير النقدي! |
هذه التسلسل المنطقي لعملة السؤال ليست سهلة التطبيق، وينبغي أن تكون في مجتمع كامل يبدأ بالمعلم، من ثم المدرسة، وصولا للطالب، وأخيرا في الأبوين، وأن يتغير المفهوم السائد في كون الاجابة الصحيحة هي التي تكافئ بالجائزة، ليكون عدم اليقين، والاجابة غير الصحيحة هي التي تحظى بالإشادة والمكافئة بدلا من ذلك، وذلك للسعي في نهوض التفكير النقدي والذي سيسهم في زيادة وعي المتعلم، وبالتالي نشوء أفكار، ونظريات علمية خلاقة، ومبدعة، تساعد في زيادة الرصيد البشري بالافكار الخالدة. |
إليك أيضا: |
نشرة خواطر مفكرة البريدية - العدد #18 الأسر متوسطة الدخل وصراع إثبات الذات تحت شعار (الحرية المالية)! - نشرة خواطر مفكرة البريدية | هدهد
الأسر متوسطة الدخل وصراع إثبات الذات تحت شعار (الحرية المالية)!
gohodhod.com
|
نشرة خواطر مفكرة البريدية - العدد #16 مفهوم زيادة الحمل التدريجي، وعن مدى قابلية تطبيقها في باقي شؤون الحياة! - نشرة خواطر مفكرة البريدية | هدهد
مفهوم زيادة الحمل التدريجي، وعن مدى قابلية تطبيقها في باقي شؤون الحياة!
gohodhod.com
|
خواطر مفكرة: إهتمام مشترك on Apple Podcasts
لقدْ آمنتُ كثيرا بكيفيةِ عقدِ الصداقاتِ عن طريقِ الاهتماماتِ المشتركة؛ فما يغلبُ على طابعِنا الحياتيِّ، مثلُ (كرة القدم) فحتى وإن كانتْ ألوانُ فريقِكَ الذي أحببتَ تقاطعتْ تماما معَ ما أحببتَ شخصيا، وكانتْ عداوةُ بعضِنا بعضا لاتعدو كونُها محيطةً بتشجيعِ فريقٍ ينهي موسمَه بفوزٍ أو خسارةِ لقبٍ، فحينَه…
podcasts.apple.com
|
التعليقات