شخصيات الكاتب - العدد #12 |
بواسطة هيفاء صالح • #العدد 12 • عرض في المتصفح |
|
وقعت عيني الأسبوع الماضي على هذه الجُملة " مخيفة فكرة أن جميع الشخصيات في الرواية هي شخصية الكاتب" توقفت لبرهة أفكر، بالطبع لست كاتبة روايات لكن أراني في كثير من نصوصي الحرة أوجه الرسالة لشيء في داخلي قبل أن أوجهها للناس.. |
قلت لما لا أبحث أكثر عن هذا الموضوع وهل هو حقيقة فعلا؟ |
لنرى … |
الكثير يظن أن الكتابة هي حرفة كغيرها من الحِرف قد تكون كذلك لكن بالنسبة للكُتاب هي عالم شاسع يمتد إلى ما وراء الكلمات، متشابك مع التجارب، المدن،الأسرار وحتى الأغنيات. |
هي في الحقيقة انعكاس للنفس البشرية بكل تعقيداتها. |
لنعود ونتأمل فكرة أن “كل الشخصيات في الرواية هي شخصيات الكاتب” نجد أنفسنا أمام شيء يكشف الكثير عن علاقة المؤلف بنصوصه والعالم من حوله. |
في كل مرة أبحث فيها أحب أن أرى القصص التجارب،أحب أن أرى قصة إنسان مر بما أبحث عنه هذا يساعدني كثيرا ويُشعرني بحقيقة الأمر أكثر وقربه أيضا.. |
لنرى اي القصص وجدت هذه المرة؟ |
حين كتبت ماري شيلي روايتها فرانكشتاين، لم يكن ذلك بدافع الخيال فقط بل جاءت الرواية كتجسيد لمخاوفها وأحزانها وشكوكها وقلقها الدائم.. |
فقد نشأت ماري في بيئة مليئة بالصراعات؛ والدتها الفيلسوفة ماري ولستونكرافت توفيت بعد ولادتها بفترة قصيرة، وتركت هذا الغياب أثرًا عميقًا في حياة الكاتبة. |
وبعد سنوات لاحقة فقدت ماري طفلها الأول،كان شعور الخسارة والذنب دافعًا لتخيل قصة عن عالم يحاول السيطرة على الحياة والموت و من هنا، أتى فرانكشتاين كوحش يظنه الكثير من وحي الخيال و من صنع العلم، لكن كان أعمق من خيال لأنه كان من صنع مخاوف شيلي الشخصية. |
أما دوستويفسكي فقد عاش حياة مليئة بالمعاناة. |
نشأ في مدينة موسكو في القرن التاسع عشر، وعايش الفقر، فقدان الأحبة، وحتى النفي إلى سيبيريا،فجاءت روايته الجريمة والعقاب التي نجد فيها شخصية راسكولنيكوف، الشاب المثقل بالصراعات الأخلاقية والذنب. |
من المستحيل ألا ترى انعكاس دوستويفسكي نفسه في هذه الشخصية، فهو الذي لطالما تأرجح بين القناعة بالإيمان العميق والتساؤلات الوجودية المرعبة. |
لكن هل الكلمات تلك والنصوص والشخصيات تمثل صاحبها فقط؟ |
الحقيقة لا هي أبعد وأعمق تعال معي ⬇️ |
الروايات ليست فقط مرآة تعكس الكاتب، بل هي مرآة لزمانه ومجتمعه،جورج أورويل على سبيل المثال لم يكتب عالم 1984 من خياله "أشغلتكم بالخيال" بل كان انعكاس لمخاوفه من الأنظمة الديكتاتورية التي بدأت في الظهور بعد الحرب العالمية الثانية. |
مدينة لندن التي صورها أورويل كئيبة، مليئة بالكاميرات والرقابة، لم تكن سوى نسخة متخيلة من العالم الذي كان يخشاه. |
في المقابل، نجيب محفوظ في روايته الثلاثية جعل من أحياء القاهرة بطلة للرواية و شخصياته، مثل السيد أحمد عبد الجواد وأسرته،عكست صراع المجتمع المصري بين التقاليد والحداثة. |
كان محفوظ يُظهر من خلال أبطاله وجهًا لمصر التي أحبها وعايش تحولات مجتمعها. |
والكتابة أيضا لا تنفصل عن الأماكن التي نشأ فيها الكاتب أو زارها فمثلا هاروكي موراكامي يصنع عوالم غريبة وشخصيات تائهة دائمًا، تمامًا كما يشعر المرء في شوارع طوكيو المزدحمة والصامتة في الوقت نفسه. |
ومن هنا عرفت أن حتى المدن يُمكن أن تكون لها شخصيات ومزاجات متقلبة وصور متغيرة،فلندن التي تصورها أورويل على أنها كئيبة قد تظهر في رواية أخرى على أنها سعيدة،ووو..الأمر نفسه لباريس في أعمال فيكتور هوغو ففي البؤساء، تظهر باريس كمدينة قاسية ولكن مليئة بالأمل، وهو ما يعكس التناقضات التي عاشها هوغو في منفاه وبعد عودته إلى وطنه وهنا كانت باريس " الأمل والبؤس في آن واحد" |
فالمدن ليست مجرد خلفيات في الأدب، بل هي شخصيات تعيش وتتفاعل مع النص.. |
أحب التحليل النفسي والبحث عن الأسباب التي أدت إلى سلوكٍ ما،لذا بحثت قليلا عن ذلك الأمر في هذا الجانب.. |
الكتابة أحيانا كثيرة تُشبه الجلوس على أريكة محلل نفسي فكل شخصية،كل حوار وكل حبكة هي محاولة لفهم الذات أو معالجتها. |
سيغموند فرويد نفسه كان يرى أن الإبداع الأدبي ينبع من اللاوعي، حيث يُسقط الكاتب رغباته ومخاوفه على نصوصه. |
مثال ذلك: جاي غاتسبي في رواية غاتسبي العظيم لسكوت فيتزجيرالد فشخصية غاتسبي الثري الحالم الذي يطارد الماضي هي صورة رمزية لفشل فيتزجيرالد نفسه في التكيف مع أحلامه الضائعة وحياته العاطفية المعقدة. |
كتب فيتزجيرالد الرواية بينما كان يكافح لإبقاء زواجه من زيلدا فيتزجيرالد، ما يجعل النص أشبه باعتراف ضمني بكل هشاشته. |
ماذا عن الأغنيات؟هل يكتب الشاعر كلمات أغنية عايشها بالفعل أم أنه في كل مرة وكل كرة نسمع إنها فقط خيال ولا علاقة لها بأي شعور حقيقي، هل يهرب الشعراء؟🤷🏻♀️ |
حتى الأغنيات تُخبرنا كيف تكون الكتابة صدى لصوت داخلي. |
فمثلا أغنية “Imagine” لجون لينون لم تكن مجرد كلمات،بل انعكاس لفلسفة لينون الشخصية عن السلام والوحدة. |
والكثير من الأغنيات عن كل شعور.. |
مارسيل بروست في البحث عن الزمن المفقود قال: “الكاتب الحقيقي لا يكتب عن الآخرين، بل عن نفسه بأقنعة مختلفة” |
هذه الفكرة تعزز الاعتقاد بأن الكتابة ليست سوى انعكاس لتجاربنا، مشاعرنا،اعتقاداتنا،طفولتنا، وحتى عالمنا الداخلي. |
لكن لحظة هل يستطيع الكاتب الهروب من مخاوفه عندما يكتب؟ أما أن مخاوفه تسبقه على الورق وتسابق حتى الكلمات والجُمل؟؟ |
الحقيقة أن الكتابة هي عملية تعرية نفسية فالكاتب من خلال نصوصه وقصصه يعرض نفسه أمام العالم.. |
رولان بارت الناقد الفرنسي الشهير كتب في لذة النص: “النص الأدبي هو مساحة مفتوحة للانكشاف” |
هذا الانكشاف قد يكون مرعبًا، لكنه في الوقت نفسه يمنح الكاتب فرصة للتصالح مع ذاته. |
هل أنهيت مابحثت عنه؟ لا طبعا بحثت أيضا وأخيرا كيف يحدث كل هذا فيسلوجيًا🤷🏻♀️كيف تظهر شخصياتنا وتجاربنا على نصوصنا ولماذا؟ وجدت أنه هناك علاقة بين الذاكرة،الدماغ،اللاوعي،و العواطف وأن لكل منها تأثير كبير جدا في عملية الكتابة وفي المخرجات.. |
فلفهم كيف تخرج شخصية الكاتب وحياته في نصوصه من منظور فيزيولوجي ونفسي، نحتاج إلى استكشاف العلاقة بين الدماغ، الذاكرة، اللاوعي، والعواطف، وكيف تؤثر جميعها في عملية الكتابة. |
1. الدماغ: مركز التحكم الإبداعي الكتابة تعتمد بشكل كبير على نشاط الدماغ، خصوصًا المناطق المسؤولة عن الإبداع، التحليل، واسترجاع الذكريات: |
•الفص الجبهي (Frontal Lobe):هذه المنطقة مسؤولة عن التفكير الإبداعي، التخطيط، وحل المشكلات. عندما يبدأ الكاتب بخلق عوالم وشخصيات، يتفاعل الفص الجبهي بشكل مكثف لتحليل التجارب الحياتية وربطها بالنصوص. |
•الجهاز الحوفي (Limbic System):وهو المسؤول عن العواطف والذكريات. عند الكتابة، يُحفَّز الجهاز الحوفي، مما يجعل الكاتب يسترجع مشاعر من الماضي، مثل الحب، الغضب، الفقد، أو الفرح، ويُسقطها على شخصياته أو أحداث قصته. |
•القشرة الجدارية (Parietal Cortex):تُساهم في إدراك العلاقة بين الذات والآخرين. هذه المنطقة تساعد الكاتب على تصور كيف تتفاعل الشخصيات في سياقات اجتماعية مختلفة، مما يجعل النص يبدو واقعيًا ومترابطًا. |
2. الذاكرة: خزان التجارب الإنسانية |
ذاكرة الكاتب ليست مجرد أرشيف للأحداث الماضية، بل هي صندوق مليء بالتجارب العاطفية التي يتم استدعاؤها أثناء الكتابة: |
•الذاكرة العرضية (Episodic Memory):تتعلق بالأحداث الشخصية التي عاشها الكاتب. |
عندما يستحضر مشهدًا من طفولته، مثل حادثة مؤلمة أو موقف مبهج، فإنه يُعيد تشكيل تلك الذكريات في نصوصه. |
•الذاكرة العاطفية (Emotional Memory):تعمل على استرجاع المشاعر المرتبطة بتجارب محددة. |
الكاتب الذي عانى من خسارة قد يُسقط حزنه على شخصية فقدت عزيزًا، حتى لو كان السياق مختلفًا. |
•الذاكرة اللاواعية: |
هذه هي الأجزاء المخزنة التي لا يدركها الكاتب بشكل مباشر. ربما يجد نفسه يكتب شخصية تعكس مخاوفه أو رغباته دون وعي، وهو ما يفسر ظهور جانب شخصي غير مخطط له في النصوص. |
3. اللاوعي: مصدر الإلهام الخفي العقل اللاواعي هو أحد أقوى المؤثرات في الكتابة فبينما يعمل العقل الواعي على اختيار الكلمات وتنظيم النصوص، اللاوعي يفتح بوابات الخيال والتجربة المخفية: |
•الرغبات والمخاوف المكبوتة:الكاتب قد يخلق شخصية تعاني من نفس الصراعات التي يعيشها داخليًا. على سبيل المثال، شخص يُعاني من الخوف من الفشل قد يكتب عن بطل يبحث عن النجاح وسط العقبات. |
•الأحلام والرؤى:يُعتبر اللاوعي مصنعًا للأحلام التي تُمثل رموزًا لمخاوف ورغبات خفية. كثير من الكُتّاب مثل ماري شيلي (فرانكشتاين) أو ستيفن كينغ يستلهمون من أحلامهم أفكارًا لشخصياتهم وقصصهم. |
4. العواطف: الوقود المحرك للكتابة |
العواطف تلعب دورًا أساسيًا في دفع الكاتب لإنتاج نصوص تعكس حياته وشخصيته: |
• الأوكسيتوسين والدوبامين:عند استرجاع ذكريات دافئة أو مواقف رومانسية، يُفرز الدماغ هرمونات مثل الأوكسيتوسين والدوبامين. |
ما يُحفّز الكاتب للغوص في مشاعره ونقلها إلى شخصياته. |
• الأدرينالين والكورتيزول:في المواقف المرتبطة بالخوف أو التوتر، يعمل الدماغ على إفراز هذه الهرمونات، مما يُمكن الكاتب من نقل شعور الرعب أو القلق إلى القارئ بواقعية شديدة. |
أخيرا:. |
الكتابة هي ساحة مترامية الأطراف، تتصارع فيها الذات الفردية مع التجربة الجماعية، وتمتزج فيها الحقيقة بالخيال، والبوح بالكتمان. |
فالكتابات التي تخطها يد الكاتب ليست مجرد كلمات صامتة، بل هي أرواح تنبض،أغنيات تحمل في طياتها الحنين والشجن،أفكار تشبه السراج في ظلمات الفكر، أماكن تسكنها الذكريات،وقصص وأحداث مليئة بالتجارب والمعاناة.. |
الكاتب، حين يضع نفسه بين كلماته يعترف دون أن يتكلم، يُصارح دون أن يُفصح و في لحظة الكتابة يكون هو الفاعل، وهو المفعول به. ومن هذه المعادلة المتضاربة يولد النص، ليكون مرآةً تعكس لنا دواخل الكاتب، ونافذة نرى من خلالها دواخلنا نحن. |
وهنا يكمن سحر الأدب فهو اعترافٌ شجاعٌ من الكاتب، واعترافٌ خفيٌّ من القارئ. هو لوحة تُبصرها العين، لينطقها القلب،هو مرآةٌ تريك قبحك وجمالك، قوتك وضعفك، ظلامك ونورك.وهكذا تأتي النصوص الخالدة، لأن فيها من الكاتب أسراره، ومن القارئ ذاته، فيجد كلُّ إنسانٍ فيها قصته. |
وسلامتكم 💗 |
النشرة جميلة لتشترك فيها 🙄 |
التعليقات