شـامـل | من نـور الوحي إلى نبراس خفيّ:الثقافة بين إرث السلف وتحديات الخلف | العدد #33

16 سبتمبر 2025 بواسطة أحـمـد الحـجـيلـي #العدد 33 عرض في المتصفح
الثقافة هي الركيزة التي يُبنى عليها وعي الشعوب، وهي الشريان الذي ينبض في وجدانهم منذ الصغر، يمدهم بالهوية ويغذيهم بالوعي والتميّز. وكما ارتبط اسم شكسبير بالثقافة الإنجليزية وآدابها، تزخر ثقافتنا العربية بأفذاذٍ سطروا تاريخها وزينوه بأبهى الأبيات والحكايات، كالمتنبي وأبي العلاء المعري وأبي نواس في الشعر، والإمام الشافعي وأبي حنيفة والإمام مالك وأحمد بن حنبل في الفقه، الذين نحن مدينون لهم بحفظ علوم ديننا وتراثه.وحبانا الله، كذلك، برجالٍ لم يكونوا عربًا، لكنهم أصبحوا مناراتٍ لا تخبو، يضيئون دروب كل عربي ومسلم. حفظ الله بهم سنة نبينا ﷺ من العبث، فكان الإمام البخاري ومسلم نور العلم، أفذاذًا دوّنوا الصحيح بعناية وحرص، واستبعدوا المكذوب، فأعلوا مقام الحديث وحرسوا صفاءه. وفي العقيدة، أضاء شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – سماء الفكر، صامدًا على الحق، لا يلين ولا ينكسر، شعلةً باقية لا تنطفئ.وأعظم من يُذكر، محمد بن عبدالله ﷺ، الذي لم يولد أشرف منه ولا أعلى قدرًا، فهو المطهَّر الذي طهّر الله به زمانه من الكفر والضعف، والفاصل بين عصر الانكسار وذرى السمو. لم تعرف الثقافة العربية أصدق منه قولًا، ولا أعمق منه حكمة، ولا أبهى منه بلاغة. هو الذي أنار قلوبًا أرهقها الظلام، وأشعل فيها نور الهداية والسلام، عليه صلوات ربي وسلامه.

تأثير الإسلام على ثقافة العرب

لم تكن الثقافة في صدر الإسلام امتدادًا أعمى لتراث العرب الجاهلي، بل احتضنها الإسلام، وهذّبها من شوائب الشرك والغلو، وزكّاها بمنهج رباني كريم. فالإسلام صان العقل العربي، وأرسى له قواعد رصينة، تربى عليها الصحابة الكرام، فكانوا خير القرون، ثم تبعهم التابعون وتابعوهم، يحفظون حديث النبي ﷺ من التحريف، فيضيئون به الدروب للأجيال اللاحقة.

ثم جاء القرآن الكريم ليكون الحصن الأعظم للسان العرب، وقد كان على وشك الذوبان في لغات الجوار الأقوى تدوينًا والأكثر نفوذًا. لكنه نزل بلسان أفصح العرب، فأرسى صفحة خالدة في تاريخ اللغة، صان جوهرها وحفظ بقاءها إلى يومنا هذا. إنه مَعين لا ينضب، وهدية لا يوازيها شكر.

وحتى في لحظات الضعف الحضاري العابر، تبقى الثقافة أرسخ من أن تنكسر، فهي ليست ضعيفة، بل قد يضعف أهلها. هذا الإرث الذي يمتد لأكثر من أربعة عشر قرنًا لا يُختزل في شعوب لحظية، بل هو شاهد على صلابة العرب وعلو حضارتهم. والقرآن الكريم خير شاهد، فهو يتجدد ولا يذوي، يغيّر دون أن يتغيّر، ويهدي من طلب الحق، ويعصم من الغواية من شاء الله له الهداية.

الواقع الثقافي العربي المعاصر بين الإرث والتحديات

اليوم، نحن أمام فرصة لم ينلها من قبلنا: فالمعرفة متاحة على مدّ البصر، والاطلاع لم يعد حكرًا على الخاصة. في عصور مضت، كان العرب يعيشون على أطراف معرفتهم بثقافتهم، أما الآن، فالمصادر متدفقة، والكنوز في متناول اليد، فلم يعد الجهل عذرًا ولا ضياع التراث خطرًا محدقًا كما كان.

ومع ذلك، لا تخفى علينا محاولات التغريب وهيمنة الآخر، غير أن ثقافتنا عصيّة على الانكسار، لأنها ممتزجة بروح الإسلام، ومشدودة بحكمة التاريخ. قد تتسلل بعض المظاهر الدخيلة، لكنها تظل محاطة ببحر زاخر من الأصالة، يغيّرها إن لزم، ولا يغيَّر بها. والسبيل الأمثل لحفظ ثقافتنا أن نغرسها في قلوب الناشئة منذ نعومة أظفارهم: علوم العربية، القرآن الكريم، أحاديث النبي ﷺ، وأشعار العرب وآدابهم الخالدة، فهي الحصون الأولى لحماية الهوية من الذوبان.

مسك الختام

الأفذاذ الذين سبقونا من علماء ومفكرين وشعراء لم يسعوا إلى تخليد أسمائهم، بل اجتهدوا في فنونهم بإتقان وإخلاص، فجعل الله آثارهم خالدة. وهكذا يكون الطريق: ليس المهم أن يُشار إلى المرء بالبنان، بل أن يتقن عمله، فالإتقان هو الذي يخلّد الأثر ويصنع المجد.

إنهم أعلام نرفع رؤوسنا بهم، ونسأل الله أن يكرمهم في عليين بما قدّموا من خدمة جليلة. أما نحن، فواجبنا أن نسير على هداهم، نصبر كما صبروا، ونثبت كما ثبتوا، حتى في لحظات الضعف والانكسار. فهذه سنة الله في الكون: تداولٌ بين قوة وضعف، لكن البقاء للأصالة والحق.

علينا أن نحمل شعلة ثقافتنا، نحفظ لغتنا، ونصون تراثنا، لنتركه زادًا للأجيال المقبلة، يواصلون به مسيرة العظمة، جيلاً بعد جيل، إلى يوم القيامة.

مشاركة
شـامـل

شـامـل

«شـامـل» | نشرة بريدية أسبوعية 📩 تُكتب من صُلب أفكار أحمد الحجيلي، ولأن كل فكرة تستحق أن تُروى كاملة، فـ «شـامـل» نشرة شاملة. «شـامـل» ليست مجرد نشرة، بل رحلة فكرية تأخذ قرّاءها إلى زوايا الأدب، والفكر، والثقافة، والتأملات النقدية، وحتى التساؤلات العابرة التي قد تقود إلى رؤى جديدة. لا تتبع خطًا واحدًا، ولا تلتزم بقالب جامد، بل تنمو مع كل عدد، تمامًا كما تنمو الأفكار في العقول، والأزهار في الحقول. في «شـامـل» لا أعدك بموضوعات تُقرأ وحسب، بل بمحتوى يحفّز عقلك، ويثير فضولك، ويفتح أمامك نوافذ جديدة على العالم. 📌 سوف تجد في «شـامـل» ☘ مقالات متنوعة تتناول كل ما يستحق القراءة والتأمل. ☘ تحليلات نقدية تُعيد النظر في الأفكار السائدة. ☘ مساحة مفتوحة لاكتشاف الجديد والمختلف. ☘ محتوى بلا قيود، كالفكرة التي تلهمنا دائمًا. في «شـامـل» الفكرة ليست النهاية، بل البداية لحوار جديد. — اشترك الآن، ودع الأفكار تأخذك في رحلة بين شِعاب عقل الكاتب، إلى أماكن لم تخطر ببالك!

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من شـامـل