شـامـل | بدون عصا سحرية: كيف نكنسُ غُبار حياتنا بالمكنسة التقليدية | العدد #31

2 سبتمبر 2025 بواسطة أحـمـد الحـجـيلـي #العدد 31 عرض في المتصفح
يؤسفني حقاً أن أرى كثيراً من الناس، خصوصاً من هم في مقتبل العمر، يلجأون إلى أقصر الطرق وأيسرها وكأنهم يبحثون عن "عصا سحرية" تحل كل شيء دفعة واحدة. لكن الحياة في جوهرها مشروع تحدٍّ متواصل، لا يُعالج بالمسكّنات ولا بالحلول العجلى، بل بمقاومة داخلية وصبر، وبتحسين أسلوب تعاملنا مع كل عائق نواجهه. التحدي الحقيقي يبدأ من الداخل، ثم يمتد إلى الخارج عبر محاولة تفكيك المشكلات وتجزيئها والتعامل معها على مراحل، بدلاً من النظر إليها دفعة واحدة كجبل صلد لا يُرى منه سوى ثِقله.وقد أدركت هذه الحقيقة في غربتي، حين كنت مضطراً لكنس فناء منزلي بالمكنسة التقليدية. لم يكن بإمكاني تنظيف الساحة كلها دفعة واحدة، بل كنت أتعامل مع كل زاوية وجزء على حدة، حتى أنتهي من كامل المكان بطمأنينة ورضى. ومع كل جلسة في هذا الفناء النظيف خلال عطلة نهاية الأسبوع، شعرت أن تجربة الكنس ليست مجرد عمل منزلي، بل درس حياتي عميق: أننا بحاجة إلى "المكنسة العادية" لا إلى "العصا السحرية".

العصا السحرية في عصر السرعة: وهم الحلول الفورية

لقد أصبح مفهوم "العصا السحرية" رمزاً سلبياً لعصرنا الحديث الذي يغطيه هوس السرعة والإنجاز الفوري ولو على حساب الجودة والإتقان. غير أن الإتقان لا يولد في بيئة الاستعجال، بل ينمو في بيئة هادئة تسمح بالتأمل والتدرج. فكم من منتجات وأعمال وقرارات خرجت متسرعة، فإذا بها تتداعى أمام أول اختبار حقيقي.

وقد لاحظ المفكرون منذ قرون هذه الحقيقة، فمثلاً الفيلسوف فرانسيس بيكون (1620م) أشار إلى أن الطبيعة لا تقفز قفزات، بل تنمو تدريجياً. وفي العصر الحديث تؤكد الدراسات العلمية هذا المنطق، ففي دراسة جامعة ستانفورد عام 2015 حول "الرضا المؤجل" (Delayed Gratification)، تبين أن الأشخاص القادرين على تأجيل لذتهم الفورية والعمل بصبر يحققون نجاحاً أكثر استقراراً على المدى الطويل. كل هذا يعكس قاعدة كونية راسخة: أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق الإنسان في لحظة، بل مر بمراحل نمو وتطور، ومع التجربة والخبرة يُكتسب الفهم.

إن وهم الحلول الفورية ليس إلا باباً من أبواب الخداع الذاتي. من يبحث عن الخلاص السريع يجد نفسه في دوامة جديدة من المشاكل. بينما من يستبدل "الحل السريع" بــــــــــ"الحل الوسيع" – أي وسع التفكير والتخطيط والمشاورة والصبر – يصل في النهاية إلى نتيجة أصلب جذوراً وأبقى أثراً.

نظرية المكنسة: حل المشكلات خطوة خطوة

لتوضيح الفكرة بشكل عملي، يمكن أن نتأمل حال موظف يواجه مشكلات متعددة مع مديره: بعضها ظاهر في تراكم المهام اليومية والمواعيد، وبعضها أعمق كضعف التواصل النفسي. لو حاول هذا الموظف معالجة كل هذه القضايا دفعة واحدة فسوف يرهق نفسه ويعقد الأمر أكثر مما يخدمه. لكن إن بدأ من أصل المشكلة، وهو التواصل النفسي، ثم راح يعالج انعكاساتها تدريجياً، فسيكتشف أن بقية التعقيدات بدأت بالانحسار من تلقاء نفسها.

وهذا النهج في معالجة الأمور ليس غريباً عن تراثنا الإسلامي، فقد جاء في حديث النبي ﷺ: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه" (رواه البيهقي) (حسنه الألباني). فالرسالة هنا أن القيمة الحقيقية ليست في السرعة، وإنما في الإتقان الذي لا يتحقق إلا بالتدرج والصبر.

تطبيق هذه الفلسفة يشمل ثلاث ركائز رئيسية:

التجزئة: تقسيم المشكلة الكبيرة إلى أجزاء أصغر.

الأولويات: البدء بما هو الأكثر تأثيراً أو اتساخاً.

الإتقان: إنهاء كل جزء بإتقان قبل الانتقال لغيره.

حتى الدراسات الحديثة في إدارة الأولويات (مثل نظرية أيزنهاور، 1999) تؤكد أن معالجة الأهم قبل المهم ترفع الإنتاجية وتقلل الضغط النفسي، وتثبت أن هذا النهج فعال عملياً وليس مجرد فلسفة.

ختاماً: مشاكل الحياة كغبار المنزل

إن مشكلاتنا وهمومنا لا تختلف كثيراً عن الغبار الذي يتراكم على أثاث بيوتنا بعد أيام من تنظيفه. سيعود الغبار مرة أخرى، كما ستعود المشكلات مرة أخرى، وهذه سنة الحياة. لكن بين من يضيع وقته بالشكوى والندب، ومن يشمر عن ساعده ويكنس غبار مشكلاته خطوة خطوة، فرق شاسع في أثر الحياة عليه وفي أثره على الحياة.

ليست الحلول الجذرية الفورية إلا وهماً جميلاً يسكن الأحلام، بينما الحقيقة تقول إن الحياة ميدان تحديات دائمة، ولا سبيل لمواجهتها إلا بحسن التخطيط، وطيب التدبير، وصبر العمل المتدرج. ومن يفعل ذلك، فلن يحل مشكلاته فقط، بل سيصنع في داخله إنساناً أصلب عوداً، أصفى نفساً، وأقدر على الاستمتاع بالراحة التي تأتي بعد جهد.

تماماً كما يزهو الفناء النظيف بعد تعب الكنس، تزهو حياتنا بعد تعب الصبر والعمل المتدرج. وهنا، لا نكون بحاجة لعصا سحرية، بل لمكنسة عادية تحمل في بساطتها أعظم الدروس.

أروى عبد السميع1 أعجبهم العدد
مشاركة
شـامـل

شـامـل

«شـامـل» | نشرة بريدية أسبوعية 📩 تُكتب من صُلب أفكار أحمد الحجيلي، ولأن كل فكرة تستحق أن تُروى كاملة، فـ «شـامـل» نشرة شاملة. «شـامـل» ليست مجرد نشرة، بل رحلة فكرية تأخذ قرّاءها إلى زوايا الأدب، والفكر، والثقافة، والتأملات النقدية، وحتى التساؤلات العابرة التي قد تقود إلى رؤى جديدة. لا تتبع خطًا واحدًا، ولا تلتزم بقالب جامد، بل تنمو مع كل عدد، تمامًا كما تنمو الأفكار في العقول، والأزهار في الحقول. في «شـامـل» لا أعدك بموضوعات تُقرأ وحسب، بل بمحتوى يحفّز عقلك، ويثير فضولك، ويفتح أمامك نوافذ جديدة على العالم. 📌 سوف تجد في «شـامـل» ☘ مقالات متنوعة تتناول كل ما يستحق القراءة والتأمل. ☘ تحليلات نقدية تُعيد النظر في الأفكار السائدة. ☘ مساحة مفتوحة لاكتشاف الجديد والمختلف. ☘ محتوى بلا قيود، كالفكرة التي تلهمنا دائمًا. في «شـامـل» الفكرة ليست النهاية، بل البداية لحوار جديد. — اشترك الآن، ودع الأفكار تأخذك في رحلة بين شِعاب عقل الكاتب، إلى أماكن لم تخطر ببالك!

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من شـامـل