شـامـل | في حضرة نعيم الجهل، يخرّ الوعي واقفًا | العدد #30

26 أغسطس 2025 بواسطة أحـمـد الحـجـيلـي #العدد 30 عرض في المتصفح
لطالما كان الجهل مقابل الوعي، نقيضًا يريح النفس من آفة التحليل المفرط والتدليل على التفاصيل والسعي الدائم وراء المعرفة والمواكبة. فالنفس الجاهلة لا تكترث لمعطيات الأمور أو تأثيرات الحياة، فهي غارقة في حيزها الخاص، بعيدًا عن الضغوط والهموم. ومن هنا يأتي "نعيم الجهل" كنعيم يستبدل الهموم بالملهيات، والأفكار بالمغريات. الجاهل، رغم جهله، يعيش مطمئنًا، بينما من ينظرون إليه بازدراء لم يجربوا طعم هذا الراحة النفسية، ولم يدركوا فحوى هذا النعيم.قد يقارن كثيرون الجهل بالوعي أو بالتعلم، لكن الحقيقة أن الجهل أحيانًا يشبه براءة الطفل؛ فالطفل لا يكترث لمعطيات الأمور ولا يدرك عواقبها، يعيش يومه كما هو دون تكلف أو هم. وفي كثير من الأحيان، يحس بعض المتعلمين بالحنين إلى "نعيم الجهل" الذي يعيشونه أحيانًا في صمت، رغم كبريائهم الظاهر. وفي الحقيقة، أحيانًا نحمد الله أننا لم نعرف بعض الأمور ولم ندركها بعد، لأن ذلك يحفظ صفاء النفس ويجنبها متاعب لا طاقة لنا بها.

الفضول البشري والجهل الطبيعي

لطالما كان الإنسان فضوليًا ويعشق المعرفة، حتى الطفل، رغم طبيعة مرحلته العمرية التي تستوجب جهله، يسعى جاهداً لاستكشاف كل جديد. يبدأ من مص أصابعه واكتشاف الرابط بين فمه ويده، مرورًا باكتشاف اليدين كأدوات لمهام تتجاوز اللعب، والتعرف على ما حوله من خلال الأكل والتذوق. كل هذا يكوّن أساس فهمه للعالم من حوله.

الجهل الطبيعي يدفع الإنسان للسعي نحو الفهم، حتى لو فقد بذلك جزءًا من راحة الجهل. إلا أن هناك أمورًا في الحياة لا ينبغي لنا أن نعيها بالكامل حفاظًا على صحتنا النفسية، مثل معرفة وقت الموت، أو تفاصيل ما سيحل بنا في هذه الدنيا. بعض الدراسات النفسية الحديثة (مثل دراسة "سونيا ليفينسون، 2018") تشير إلى أن إدراك بعض الحقائق القاسية قبل وقتها يمكن أن يزيد التوتر النفسي ويعيق الأداء العقلي. وهذا يتوافق مع فكرة أن الجهل أحيانًا رحمة إلهية.

كذلك، في مواقف حياتية بسيطة، مثل الصدقات أو التعامل مع الآخرين، فإن الانغماس في تحليل كل تصرف أو تصرف مريب قد يرهق النفس، بينما حسن الظن يريح الإنسان ويمنحه راحة لن يحققها البحث المتعمق عن الأسباب.

حدود المعرفة وأهمية الجهل

ليست كل المعرفة تستحق السعي وراءها. كثيرًا ما وجدت أن الجهل في بعض الأمور أفضل من البحث المستمر فيها. الفضول صفة إنسانية طبيعية ومشروع، لكنه يجب أن يكون محمودًا ومحدودًا، لأن التوسع المفرط في كل العلوم والأخبار يشتت التركيز ويجهد النفس.

الجهل ليس نقمة، بل هو نعمة من نعم الله على الإنسان، كما أشار الفيلسوف توماس هوبز في القرن السابع عشر، حين قال إن "الإنسان لا يستطيع إدراك كل شيء، والجهل جزء من النظام الطبيعي للحياة". فالفضول يأتي من الجهل، والمعرفة تتولد من الفضول، وكل منهما يشد الآخر. لكن الانغماس في كل التفاصيل يُرهق العقل ويجعل الإنسان في حالة معالجة مستمرة، وهو ما يوضح أهمية التوازن بين المعرفة والجهل.

التوازن بين المعرفة والجهل

كيف نوازن بين المعرفة والجهل؟ الحقيقة أن المعرفة، رغم تحدياتها، أساس ضروري للحياة، فالذي يعلم خير من الذي لا يعلم. لكن ليس كل ما يمكن معرفته يجب أن نعرفه.

هناك جمال في العودة إلى براءة الطفل، في النظر إلى الكون بعيون فضولية بسيطة، وفي سماع أصوات الطبيعة والكواكب كما يسمع الطفل والديه لأول مرة. ليس كل تجربة فضولية تستحق التحليل العميق؛ أحيانًا يكفي التلذذ باللحظة والتمتع بجمال العالم كما هو، والسماح للوعي بأن "يخرّ واقفًا" في حضرة نعيم الجهل.

هذه الفكرة تدعمها بعض الدراسات في علم النفس الإيجابي (مثل دراسة "مارتن سليغمان، 2011")، والتي تشير إلى أن القدرة على التوقف عن التحليل المستمر والاستمتاع باللحظة تزيد من الشعور بالرضا والسعادة.

الخاتمة

نعيم الجهل نعمة من نعم الله على عباده، يجهلها كثير من الناس في لحظات البحث عن تفسير لكل فضول. الجهل بالأشياء لا يعني قلة المعرفة بالضرورة، بل قد يكون اختيارًا واعيًا لإعطاء أولوية لفضول آخر يثري الإنسان بالمعرفة ويغذيه روحياً وفكريًا.

المعرفة ليست مصباحًا سحريًا يخفت من قوة الفضول، بل هي خيط يربط بين رحلاتنا المتعددة من الفضول والاكتشاف. في اللحظة التي يظن فيها الإنسان أنه وصل إلى نهاية معرفته، يكون في الحقيقة قد بدأ رحلة جديدة من الفضول اللامنتهي. نعيم الجهل هو رحمة ربانية، لا يعني هجر الفضول أو المعرفة، بل التوازن والخضوع لحكمة الكون، والتذكير بأننا، مهما نضجنا، لا نزال ذلك الطفل الذي يفحص يديه كأول مرة، باحثًا عن طمأنينة وروعة الاكتشاف البريء.

مشاركة
شـامـل

شـامـل

«شـامـل» | نشرة بريدية أسبوعية 📩 تُكتب من صُلب أفكار أحمد الحجيلي، ولأن كل فكرة تستحق أن تُروى كاملة، فـ «شـامـل» نشرة شاملة. «شـامـل» ليست مجرد نشرة، بل رحلة فكرية تأخذ قرّاءها إلى زوايا الأدب، والفكر، والثقافة، والتأملات النقدية، وحتى التساؤلات العابرة التي قد تقود إلى رؤى جديدة. لا تتبع خطًا واحدًا، ولا تلتزم بقالب جامد، بل تنمو مع كل عدد، تمامًا كما تنمو الأفكار في العقول، والأزهار في الحقول. في «شـامـل» لا أعدك بموضوعات تُقرأ وحسب، بل بمحتوى يحفّز عقلك، ويثير فضولك، ويفتح أمامك نوافذ جديدة على العالم. 📌 سوف تجد في «شـامـل» ☘ مقالات متنوعة تتناول كل ما يستحق القراءة والتأمل. ☘ تحليلات نقدية تُعيد النظر في الأفكار السائدة. ☘ مساحة مفتوحة لاكتشاف الجديد والمختلف. ☘ محتوى بلا قيود، كالفكرة التي تلهمنا دائمًا. في «شـامـل» الفكرة ليست النهاية، بل البداية لحوار جديد. — اشترك الآن، ودع الأفكار تأخذك في رحلة بين شِعاب عقل الكاتب، إلى أماكن لم تخطر ببالك!

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من شـامـل