شـامـل | أثر الإعلام الرقمي في تآكل احترام الذات | العدد #26 |
29 يوليو 2025 • بواسطة أحـمـد الحـجـيلـي • #العدد 26 • عرض في المتصفح |
الذات الإنسانية هي أعظم الهبات التي وهبها الله للإنسان، فهي نواة الكرامة ومصدر العزة التي ميز الله بها بني آدم عن سائر المخلوقات، كما جاء في قوله تعالى: "ولقد كرمنا بني آدم". غير أن هذه الذات، بكل ما تحمله من قيمة وجوهر، باتت مهددة في زمن الإعلام الرقمي. لقد أصبح الإنسان المعاصر عرضة دائمة للقياس والمقارنة، حتى دون وعي منه، ما جعله يسقط في فخ تدني التقدير الذاتي شيئًا فشيئًا. فتأثير الإعلام الرقمي لم يقتصر على الأشخاص العاديين فحسب، بل طال حتى من يظنون أنفسهم محصنين. هذا المقال يستعرض أربعة محاور مركزية تسلط الضوء على أسباب هذا التدني: المقارنة الاجتماعية، التعليقات السلبية والتنمر الإلكتروني، الاعتماد المفرط على التفاعل الرقمي، ثم دور الإعلانات في خلق صنم المثالية.
|
|
المقارنة الاجتماعية – فخ خفي للذات |
لقد خلق الإعلام الرقمي ظاهرة نفسية معقدة تُعرف بــ"المقارنة الاجتماعية"، وهي ظاهرة شبه لا إرادية، تجعل الإنسان يُغرق ذاته في دوامة من الشعور بالنقص والدونية. يبدأ الأمر بصورة أو منشور يُظهر أحدهم في لحظة مجد أو رفاه، سيارة فاخرة، وظيفة مرموقة، أو حتى لحظة سعادة عابرة، فيقارن المتلقي حياته الكاملة بهذه الجزئية المبتورة من حياة الآخر. والمفارقة أن هذه اللحظة "المثالية" قد تكون تخفي خلفها كثيرًا من العثرات والمشكلات. ومع تكرار هذا النمط من التعرض، يبدأ التقدير الذاتي بالتآكل، وقد يتحول إلى نمط تفكير دائم. دراسة لجامعة كوبنهاغن (2017) تؤكد أن الاستخدام المفرط لمواقع التواصل الاجتماعي يرتبط بشكل مباشر بتدني تقدير الذات الناتج عن المقارنات المتكررة. |
التنمر الإلكتروني – طعنات صامتة للكرامة |
لم تعد الإساءة اليوم تتطلب حضورًا جسديًا، فالكلمات عبر الشاشات أضحت أشد وقعًا وأعمق أثرًا. فئة المراهقين، لا سيما الفتيات، يتعرضن لتعليقات جارحة على الشكل، الفكر، أو المواقف، ما يؤدي إلى اهتزاز الصورة الذاتية، بل أحيانًا إلى أزمات نفسية حادة. تقرير لليونسكو عام 2020 أشار إلى أن واحدًا من كل ثلاثة طلاب حول العالم تعرّض للتنمر الإلكتروني، وهو رقم صادم. يجب ألا يكون الرد على التنمر بالخنوع أو الصمت، بل بالردع القانوني أو الرقمي؛ فالمتضرر إن لم يدافع عن نفسه، سقط فريسة هذا الجرم الحديث. |
![]() فتاة تشعر بالإحباط والدونية بسبب قله التفاعل (Chat GPT) |
عبودية التفاعل – تقييم الذات بالأرقام |
في زمن الرقمية، أصبح عدد المتابعين، الإعجابات، والمشاركات معيارًا لجودة الشخص أو فكره. أصبحنا نقيّم قيمة المحتوى - بل حتى قيمة الناس - على أساس كمية التفاعل. هذه المعادلة المضطربة أغفلت الجوهر الحقيقي: العمق المعرفي والفكري. صانعو المحتوى الهادف يعانون من هذا الخلل، حيث يبذلون جهدًا ضخمًا، ثم يُفاجأون بتفاعل ضئيل لا يوازي ما قُدِّم، مما يُشعرهم بالإحباط وتدني التقدير. هذا ليس انعكاسًا للجودة، بل لطبيعة التلقي السريعة في بيئة تفضل الترفيه على المعرفة. |
الإعلانات الرقمية – صناعة صنم المثالية |
ساهمت الإعلانات في خلق صورة مثالية مزيفة للحياة، تُختزل في منتج يُسوَّق على أنه مفتاح السعادة. فكرة أن جمالك أو نجاحك أو راحتك رهن باقتناء غسول معين أو هاتف جديد، ليست سوى تضليل نفسي ممنهج. وحين يعجز البعض عن اقتناء هذا "الصنم الاستهلاكي"، يشعرون بالنقص. دراسة لـ Harvard Business Review أوضحت أن 70٪ من النساء يشعرن بعدم الرضا عن أجسادهن بعد مشاهدة محتوى دعائي على الإنترنت، مما يدل على قوة الإعلام في تشكيل صورة الذات سلبًا. |
نحو استعادة الكرامة الرقمية |
في الختام، الإعلام الرقمي ليس عدوًا بطبيعته، لكنه أداة مزدوجة الحافة. عندما يُستخدم بلا وعي، يصبح فخًا نفسيًا يؤدي إلى تآكل الذات، أما إذا ما استُخدم بحذر ووعي، فإنه يصبح وسيلة للتعبير والتواصل والنمو. على الإنسان أن يتحرر من سطوة الأرقام، ومن أوهام المثالية المصطنعة، وأن يتعلم كيف يحمي ذاته من فخ المقارنة والتنمر، وأن يعيد تعريف قيمته من الداخل لا الخارج. فكرامتك لا يصنعها "إعجاب"، ولا يقيسها عدد المتابعين، بل يخلقها وعيك بذاتك وقدرتك على مقاومة كل ما يسلبها نقاءها. |
التعليقات